مقدمة
يعود الصراع بين بني إسرائيل وسكان بلاد الشام، الذين تعود أصولهم إلى الكنعانيين، إلى العصور القديمة، كما توثق النصوص التوراتية والتلمودية. ففي أسفار التوراة، نجد شذرات عديدة تتناول حروب بني إسرائيل ضد الكنعانيين، وخصوصاً ضد أبناء يهوذا والسامرة، حيث يظهرون في النصوص كقوة متقدمة تتمتع بثقافة غنية ومجتمع مستقر وزراعة متطورة. ومع ذلك، عُدّت هذه الحضارة في التوراة رمزاً للوثنية والانحراف عن الإيمان، مما أدى إلى مواجهات طويلة تهدف إلى فرض سيطرة بني إسرائيل على الأرض الموعودة، وتأسيس “إسرائيل الكبرى“.
تُشرعن نصوص التوراة (التناخ – תנח) هذه الحروب باعتبارها اختباراً لتمسك بني إسرائيل بعقيدتهم، وتقدم نقداً للكنعانيين وثقافتهم، واعتبارهم خطراً مستمراً. ومن هذه الرؤية التوراتية والتلمودية والتلمودية (الماشناه -משנה) ، يمكن ملاحظة أن العداء التاريخي بين الطرفين لم يكن مجرد صراع على الأرض، بل كان يتمحور أيضاً حول محاولات فرض سيطرة ثقافية ودينية، ما أفضى إلى العديد من المعارك، والتي يمكن إسقاطها على بعض جوانب الحروب التي يقوم بها شتات اليهود الذي احتل فلسطين 1948، ومنها جرائم الإبادة الجماعية التي نشهدها اليوم.
شذرات من حضارة الكنعانيين في التوراة: قراءة في النصوص والدلالات
تحفل التوراة بذكر الكنعانيين، سكان منطقة كنعان التاريخية، الذين عاشوا في أراضٍ تشكل اليوم أجزاءً من فلسطين، لبنان، سوريا، والأردن. وُصِفَ الكنعانيون بأنهم من أقدم الشعوب السامية، وارتبطت حضارتهم بالعمران، التجارة، والأديان المتعددة. وفي التوراة، تظهر هذه الحضارة من خلال العديد من النصوص التي تصف مدنهم وعاداتهم ودياناتهم.
ونستعرض هنا أبرز ما ورد عن الكنعانيين في أسفار التوراة، مع الاستشهاد بالأمثلة ورقم الآية لمزيد من التفصيل.
مدن الكنعانيين: رموز حضارة متطورة
يذكر سفر يشوع مدينة “أريحا” باعتبارها أول مدينة كنعانية تواجه بني إسرائيل أثناء دخولهم إلى “الأرض الموعودة”. ووفقاً للنص التوراتي، كانت أريحا محصّنة بجدرانٍ قوية، مما يشير إلى تطور معماري كبير:
“فَسَقَطَ السُّورُ فِي مَكَانِهِ، وَصَعِدَ الشَّعْبُ إِلَى الْمَدِينَةِ” (يشوع 6: 20).
كما تُذكر “صور وصيدا” في سفر “الملوك الأول” على أنها مدن مزدهرة تجارياً، حيث كانت تزوّد مملكة إسرائيل بالأخشاب من أجل بناء الهيكل:
“فَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ فِي تُصُورٍ وَصَيْدَا” (ملوك أول 5: 6).
الآلهة الكنعانية وتحديات العقيدة
الإله “بعل” و “عشتاروت” ذُكرا في عدة مواضع في النصوص التوراتية، وهي آلهة مرتبطة بالخصوبة والمطر، وكان الكنعانيون يقدمون لها القرابين والطقوس. يشير سفر القضاة إلى “بعل” على أنه أحد الأسباب التي جعلت بني إسرائيل ينحرفون عن عبادة الله:
“فَتَرَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الرَّبَّ وَعَبَدُوا الْبَعْلَ وَعَشْتَارُوتَ” (قضاة 2: 13).
كان “بعل” رمزاً للخصوبة والسيطرة على الطبيعة، واعتُبِرَ كتهديد عَقَديّ لبني إسرائيل، حتى أنه عُقِدَت مواجهات دينية ضد عبادة “بعل” في فترة النبي “إيليا”، كما في سفر الملوك الأول:
“فَأَخَذَ إِيلِيَّا أَنْبِيَاءَ الْبَعْلِ … وَذَبَحَهُمْ عِنْدَ وَادِي قِيشُونَ” (ملوك أول 18: 40).
الممارسات الدينية و”رجاسات” الكنعانيين
التوراة تنتقد طقوس الكنعانيين الدينية، وخصوصاً تقديم الأطفال كقرابين في بعض طقوسهم، حيث يعتبر سفر التثنية هذه الممارسات “رجاسات” يحظر على بني إسرائيل تبنيها:
“لا تَكُنْ فِيكَ مَنْ يُعَبِّرُ ابْنَهُ أَوِ ابْنَتَهُ فِي النَّارِ” (تثنية 18: 10).
كما يشير سفر اللاويين إلى أن بني إسرائيل يجب أن لا يسلكوا نفس سلوكيات الشعوب الكنعانية، ويحذر من اتباع هذه العادات:
“لا تَفْعَلُوا كَمَا تَفْعَلُ أَرْضُ كَنْعَانَ” (لاويين 18: 3).
النشاط التجاري والزراعي: عناصر الاقتصاد الكنعاني
يعكس النص التوراتي أن الكنعانيين كانوا ماهرين في الزراعة والتجارة، وأسسوا اقتصاداً نشطاً مبنياً على علاقات تجارية متينة مع حضارات مصر وبلاد الرافدين. يُشار إلى صور وصيدا في التوراة كمدينتين تجاريتين متطورتين تملكان أساطيل بحرية، وتمدّان الشعوب الأخرى بالأخشاب والصبغات النفيسة:
“وَكَانَ التُّجَّارُ وَالتَّاجِرُونَ يَسْكُنُونَ فِي أَرْضِهِمْ” (هوشع 12: 7).
يذكر النص في سفر الملوك الأول أن الملك سليمان طلب من صور الإمدادات الأساسية لبناء الهيكل، وهو دليل على التجارة الواسعة بين الكنعانيين والممالك المجاورة.
الحروب والنزاعات مع بني إسرائيل
تصف التوراة صراعات عديدة مع الكنعانيين، حيث كانوا يعتبرون عائقاً أمام استقرار بني إسرائيل في الأرض الموعودة. لكن في بعض الحالات، تشير النصوص إلى تعايش سلمي مؤقت. في سفر العدد، يُروى كيف قاتلوا شعوب الكنعان:
“وَجَاءَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْكَنْعَانِيِّينَ فِي حَرَبِ قَدِيشَ” (عدد 21: 1).
كما يُذكر في سفر يشوع أن بني إسرائيل واجهوا صعوبة في الاستيلاء على جميع الأراضي الكنعانية، مما سمح بوجود كنعانيين عاشوا بجانبهم في عدة مدن.
الحروب بين الكنعانيين وأبناء يهوذا والسامرة في التوراة والتلمود: قراءة تحليلية
تناولت التوراة والتلمود تفاصيل عديدة عن الحروب بين الكنعانيين وأبناء إسرائيل، وخصوصاً أبناء قبائل يهوذا وإفرايم. تُظهر النصوص أن هذه الحروب كانت عنيفة، حيث قاتل أبناء إسرائيل للسيطرة على أراضي كنعان وفرض وجودهم. وتعرض هذه النصوص أمثلة من المواجهات العسكرية، ومقاومة الكنعانيين، وكيف سعى بنو إسرائيل للسيطرة على المنطقة، إلى جانب تحليل التلمود لهذه الأحداث في سياقات دينية وأخلاقية. ونستعرض بعض النصوص التوراتية، مع إشارة إلى التفاسير التلمودية.
- الحرب ضد كنعان: قبيلة يهوذا كقوة ضاربة
يُذكر في سفر القضاة أن قبيلة يهوذا كانت من أولى القبائل التي واجهت الكنعانيين مباشرة، حيث أمر الرب يهوذا بالصعود لمحاربة الكنعانيين للسيطرة على أرض كنعان:
“فَصَعِدَ يَهُوذَا، وَدَفَعَ الرَّبُّ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفَرِزِّيِّينَ إِلَى أَيْدِيهِمْ، فَضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي بَازَقَ عَشَرَةَ آلاَفِ رَجُلٍ” (قضاة 1: 4).
وفي تفسير هذا النص، يوضح التلمود أن هذا النصر لم يكن عسكرياً بحتاً، بل كان يعتبر بمثابة تنفيذ لأمر إلهي بتحرير الأرض من الوثنية، ويرى بعض الحكماء أن يهوذا تصرّف كأداة في يد الله لتحقيق إرادته.
- معركة مع سكان القدس الكنعانيين
أحد المعارك التي ذُكرت في سفر يشوع كانت ضد اليبوسيين، وهم سكان القدس من الكنعانيين. على الرغم من استيطان بني إسرائيل في عدة أجزاء من كنعان، لم يتمكنوا في البداية من الاستيلاء الكامل على القدس بسبب قوة اليبوسيين:
“وَأَمَّا الْيَبُوسِيُّونَ السَّاكِنُونَ فِي أُورُشَلِيمَ فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو يَهُوذَا أَنْ يَطْرُدُوهُمْ” (يشوع 15: 63).
ويفسر التلمود هذه الآية على أنها دليل على قدرة اليبوسيين العسكرية وتصميمهم على الدفاع عن مدينتهم. لاحقاً، تمكن الملك داود من دخول المدينة وطردهم، وأصبحت القدس العاصمة الروحية والسياسية للمملكة الموحدة.
- حروب إفرايم مع الكنعانيين
قبيلة إفرايم أيضاً خاضت عدة معارك مع الكنعانيين، لكنها واجهت صعوبة في السيطرة على كل الأراضي، خاصةً في المناطق ذات الأهمية الاقتصادية. في سفر القضاة، نقرأ أن الإفرايميين لم يطردوا الكنعانيين من مدينة “جازر”:
“وَلَمْ يَطْرُدْ أَفْرَايِمُ الْكَنْعَانِيِّينَ السَّاكِنِينَ فِي جَازَرَ” (قضاة 1: 29).
مدينة جازر هي مدينة كنعانية قديمة ذُكرت في التوراة، وتعتبر واحدة من المواقع الهامة في تاريخ بني إسرائيل، حيث كانت تقع على طريق تجاري استراتيجي بين مصر والشام، وكانت مركزاً حضارياً وتجارياً للكنعانيين.اليوم، يُعرف موقع مدينة جازر باسم تل جازر أو تل أبو شوشة، ويقع في فلسطين بالقرب من مدينة الرملة، على بعد حوالي 30 كيلومتراً غرب القدس. وكشفت الحفريات الأثرية عن آثار كنعانية وإسرائيلية وفارسية ويونانية، ويُعتقد أن المنطقة كانت مأهولة بالسكان منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.
وفي التلمود، يُنظر إلى هذا على أنه إخفاق في الالتزام الكامل بوصايا الله، حيث يعتقد بعض الحكماء أن هذا الفشل كان له أثر طويل المدى، إذ بقي تأثير الكنعانيين في هذه المناطق، ما شكّل نوعاً من التحدي الروحي والاجتماعي لبني إسرائيل.
- معركة ديبون بين قبائل السامرة والكنعانيين
في سفر العدد، جاء ذكر معركة ديبون، وهي مدينة كنعانية واجه فيها الإسرائيليون مقاومة عنيفة. ذُكرت هذه الحادثة عند مواجهة “سيحون” ملك الأموريين (كنعاني الأصل)، والذي منع بني إسرائيل من المرور في أرضه، ما أدى إلى اشتباك عسكري كبير:
“وَأَرْسَلَ إِسْرَائِيلُ رُسُلاً إِلَى سِيحُونَ … وَلَمْ يَسْمَعْ سِيحُونُ” (عدد 21: 21-23).
وفي التلمود، يُفَسَّر هذا الهجوم على أنه تجسيد لرفض الشعوب الكنعانية التخلي عن ثقافتهم وتقاليدهم أمام الغزو الإسرائيلي، ويرى البعض أن هذا الرفض أدى إلى سلسلة من الصراعات الطويلة. هذه النصوص توضح مدى تصميم الكنعانيين على مقاومة أي تغييرات دينية أو ثقافية قد يفرضها بنو إسرائيل.
- مواجهة الحصون الكنعانية في حاصور
ورد في سفر يشوع أيضاً ذكر مدينة حاصور كواحدة من أقوى الحصون الكنعانية.
حصون حاصور كانت واحدة من أهم المدن الكنعانية القديمة، تقع في شمال فلسطين التاريخية (شمالي بحيرة طبريا في الجليل الأعلى، بالقرب من البلدة الإسرائيلية الحديثة "كيبوتس عين جيف"، وعلى مقربة من الحدود اللبنانية الحالية). يعد الموقع -الآن- جزءاً من الحديقة الوطنية الإسرائيلية ويُعتبر من مواقع التراث العالمي لليونسكو.
ويروي التاريخ أن القائد “بابين” تحالف مع ملوك كنعانيين آخرين لمواجهة بني إسرائيل، ما أدى إلى معركة دامية:
“فَخَرَجَ كُلُّ أُولَئِكَ الْمُلُوكِ وَنَزَلُوا مَعاً … عِنْدَ مِيَاهِ مَرُومِ لِيُحَارِبُوا إِسْرَائِيلَ” (يشوع 11: 5).
في التلمود، يُستدل من هذه المعركة على أن الكنعانيين كانوا متحالفين ومستعدين للتضحية ضد بني إسرائيل، وأن معركة حاصور كانت تحدياً كبيراً أمام الإسرائيليين، حتى أُعتبرت بمثابة اختبار لقوة إيمانهم بوعد الله.
من خلال استعراض المعارك التي دارت بين الكنعانيين وأبناء يهوذا والسامرة كما وردت في التوراة وتفسيرات التلمود، تتضح طبيعة النزاع بين الشعبين، فالتوراة تركز على تنفيذ وصية إلهية بطرد الكنعانيين، بينما يفسر التلمود هذه المعارك بوصفها صراعاً بين الإيمان والحفاظ على الهوية من جهة، وإصرار الكنعانيين على حماية أرضهم من جهة أخرى.
الدروس الرمزية من ذكر الكنعانيين
استخدمت النصوص الكنعانية كرمز للتحذير من الانحراف الروحي والانغماس في “رجاسات” الشعوب المحيطة. على سبيل المثال، تكرر التوراة تحذيرها من عبادة الآلهة الوثنية، مشيرةً إلى أن مصير الكنعانيين سيكون عبرة لبني إسرائيل:
“فَتُحَرِّقُونَ أَرْضَهُمْ … وَيَكُونُ مَصِيرُهُمْ عِبْرَةً لَكُمْ” (عدد 33: 52).
وختاماً
من خلال تأمُّل التاريخ، نجد في حروب الكنعانيين وبني إسرائيل مثالاً يعكس أبعاداً ثقافية ودينية للنزاع الدائر في منطقة بلاد الشام. إن قراءة هذه الأحداث القديمة تُعطينا منظوراً لفهم جذور العداء وأبعاده المعاصرة التي استغلها الشتات اليهودي ليشكل ما سمي ب(الحركة الصهيونية)، التي وَجدَت فيها الدول الإستعمارية فرصةً للتخلص من هذا الشتات المزعج لشعوبها المسيحية الأصول، فقامت بدعمها لإحتلال فلسطين كي تجعلها شوكة في الشرق الأوسط وذراعاً ضارباً يحقق مصالح دولهم بآن واحد.
علينا أن نستخلص من هذه الأحداث عبرة حول تعقيدات الصراعات التاريخية وارتباطها بالهوية والانتماء. إن الوعي بتاريخ الصراع وأسبابه العميقة يمكّننا من فهم ما يجري اليوم، كما يُبرز الحاجة إلى استيعاب الدروس المستفادة لبناء مستقبل لبلادنا ينتصر فيه الحق على الباطل.