توطئة
على مدى سنوات، أصبحت العلاقة بين واشنطن وطهران ساحة صراع جيوسياسي معقد، تعكسه السياسات المتباينة للإدارات الأمريكية المتعاقبة. الرئيس الأمريكي السابق “أوباما” وخليفته ” الرئيس بايدن” كانت سياستهما تجاه إيران متهادنة ورخوة على خلاف سياسة الرئيس “دونالد ترامب“، الذي يُعرف بنهجه الصارم تجاه إيران، قد يجد “ترامب” نفسه مرة أخرى أمام فرصة صياغة استراتيجية متشددة جديدة لمواجهة الملف النووي الإيراني ونفوذ طهران الإقليمي. مع تداول احتمالية عودته إلى البيت الأبيض في غرّة العام 2025، يعود الحديث عن نهج “الضغوط القصوى” الذي تبنّاه في ولايته الأولى، وعن الدور المتوقع لأحد أبرز رجاله، “براين هوك“، في تشكيل هذه السياسة.
إرث بايدن: التراخي تحت المجهر
ورثت إدارة “بايدن” إرثاً ثقيلاً من العقوبات الصارمة التي فرضتها إدارة “ترامب” على إيران. ورغم أنها أضافت عقوبات فردية ووسّعت بعض الأوامر التنفيذية، إلا أن تطبيقها لم يكن بنفس الحزم. سمح هذا النهج لإيران بزيادة صادراتها النفطية واستعادة احتياطاتها من النقد الأجنبي، دون توضيح الأسباب وراء هذا التخفيف غير الرسمي للعقوبات. هذا الوضع أثار تساؤلات حول قدرة إدارة “بايدن” على فرض سياسة متماسكة ضد طهران، وعما إذا كان هذا النهج قد منح إيران مساحة أكبر للمناورة.
العودة إلى سياسة الضغوط القصوى؟
تشير التصريحات الأخيرة ل”براين هوك” إلى أن إدارة ترامب المقبلة ستعيد إحياء سياسة الضغوط القصوى، ولكنها قد تُعيد صياغة أهدافها. وفقاً لهوك، تسعى هذه الاستراتيجية إلى تحقيق:
اتفاق جديد: يحد من نفوذ إيران الإقليمي وبرنامجها النووي، في خطوة تُعيد وضع شروط صارمة تتجاوز بنود الاتفاق النووي لعام 2015.
تنسيق دولي: لضمان عدم إثارة أزمة اقتصادية عالمية، خاصة في قطاع الطاقة.
ما هو الاتفاق النووي لعام 2015؟ كان الاتفاق النووي الإيراني، المعروف رسمياً باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة" (JCPOA)، اتفاقاً تاريخياً تم التوصل إليه في عام 2015 بين إيران ومجموعة (5+1) وهي الولايات المتحدة، روسيا، الصين، المملكة المتحدة، فرنسا، وألمانيا. كان الهدف الرئيسي من هذا الاتفاق هو تقييد البرنامج النووي الإيراني وضمان طابعه السلمي، مقابل رفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران.
ومع ذلك، يتعين على الإدارة الجديدة مواجهة تحديات رئيسية، مثل ردود الفعل الانتقامية الإيرانية واحتمال ارتفاع أسعار النفط نتيجة تقلّص الإمدادات.
صفقة جديدة تلوح في الأفق؟
قد تسعى إدارة ترامب إلى تكرار ما فعلته في ولايته الأولى من الضغط على إيران لإبرام اتفاق جديد يحل محل الاتفاق النووي السابق. لكن الظروف اليوم مختلفة: إيران قد تكون أكثر تمسكاً بمواقفها، بينما يعاني نفوذها الإقليمي من ضربات موجعة، أبرزها استهداف “حزب الله” و”حماس” من قبل إسرائيل.
هذه التغيرات قد تدفع إيران إلى تبني نهج أكثر صلابة في المفاوضات المستقبلية، رغم ضعفها الاقتصادي المتزايد.
المجازفة الكبرى: تشديد الضغوط أم مناورة محسوبة؟
يبقى خيار “الضغط الأقصى” مغامرة محفوفة بالمخاطر. بينما تهدف العقوبات إلى إرغام إيران على تقديم تنازلات، قد تدفعها بالمقابل إلى تسريع برنامجها النووي، مستغلة المفاوضات كغطاء زمني للوصول إلى العتبة النووية. تشير التقديرات إلى أن إيران باتت على بعد أسابيع فقط من امتلاك المواد اللازمة لصنع قنبلة نووية، ما يجعل أي تأخير في الاستجابة مخاطرة كبرى.
استراتيجية شاملة للمرحلة القادمة
تتطلب مواجهة إيران نهجاً يتجاوز العقوبات الاقتصادية وحدها. لتحقيق أهدافها، تحتاج الإدارة الأمريكية المقبلة إلى تبني سياسة أكثر تكاملاً تتضمن:
- تعزيز الردع الإقليمي: من خلال دعم الحلفاء، مثل إسرائيل، في تنفيذ ضربات عسكرية موجعة ضد الميليشيات المدعومة من إيران.
- تصعيد الضغوط الداخلية: عبر دعم المعارضة الإيرانية وتشجيع الانقسامات الداخلية لإضعاف قبضة النظام.
- احتواء نفوذ إيران إقليمياً: من خلال منعها من استغلال عمليات إعادة الإعمار في غزة ولبنان لتعزيز نفوذها، والعمل على كسب دعم دولي للحد من تدخلاتها الإقليمية.
التحديات في سوق الطاقة
قد يؤدي تشديد العقوبات على إيران إلى تقليص صادراتها النفطية بمقدار مليون برميل يومياً، مما يرفع أسعار النفط العالمية. لتجنب أزمة طاقة، قد تضطر واشنطن إلى اتخاذ خطوات مثل تخفيف العقوبات على روسيا لتعويض النقص، وهو خيار محفوف بالتحديات السياسية.
في الختام
مع دخول ترامب المحتمل مجدداً إلى البيت الأبيض عام 2025، ستواجه إدارته المقبلة معضلة صعبة: كيف يمكن استخدام سياسة “الضغوط القصوى” بشكل أكثر فاعلية دون التسبب في تصعيد غير محسوب أو أزمات دولية كبرى؟
إن نجاح أي استراتيجية أمريكية تجاه إيران يعتمد على وضع أهداف دقيقة، وتحقيق توازن بين الحزم والدبلوماسية، وضمان دعم دولي واسع. العقوبات قد تكون أداة قوية، لكنها لن تكون كافية بمفردها لتحقيق الاستقرار أو وقف التهديد الإيراني. بدلاً من ذلك، تحتاج واشنطن إلى خطة شاملة تتجاوز مجرد العقوبات، نحو رؤية أكثر توازناً لاستقرار الشرق الأوسط.