مقدمة
يقال إن التاريخ يعيد نفسه، ولكن بأسماء وأشكال مختلفة. حين نعود بالزمن إلى القرن الثالث عشر، نرى كيف تحوّل المماليك، الذين كانوا عبيداً في البداية، إلى قوة عسكرية وسياسية سيطرت على مصر وبلاد الشام وحكمت المنطقة لقرون. لقد بدأوا كأدوات في يد سلاطين الأيوبيين، لكنهم سرعان ما أصبحوا هم سادة الموقف، وأسقطوا من سبقهم وأسسوا دولتهم الخاصة. اليوم، ونحن نراقب المشهد السوري، تبرز ملامح مقلقة تعيد إلى الأذهان تجربة المماليك، ولكن هذه المرة بقيادة فصائل إسلامية تحمل فكراً متطرفاً وأجندات خارجية، وعلى رأسها أحمد الشرع، المعروف بـ”الجولاني“، الذي يبدو وكأنه يسعى إلى تأسيس “دولة مملوكية جديدة” في سوريا تحت عباءة أيديولوجية حديثة.
المماليك بين الماضي والحاضر.. نشأة القوة واحتكار السلطة
تاريخياً، بدأ المماليك كجنود عبيد استُقدموا من مناطق القوقاز وآسيا الوسطى، ودُرّبوا في معسكرات خاصة ليصبحوا نخبة عسكرية تُستخدم لحماية السلاطين. لكن الطموح السياسي والتفوق العسكري جعلهم يتمردون على أسيادهم ويؤسسون دولة خاصة بهم. تمكنوا من هزيمة المغول في معركة عين جالوت، ثم استولوا على الحكم بعد سقوط الدولة الأيوبية، ليصبحوا القوة الحاكمة في مصر وبلاد الشام لمدة تقارب ثلاثة قرون.
اليوم، الفصائل الإسلامية في سوريا، التي نشأت تحت مظلة التنظيمات الجهادية، تمثل نموذجاً مشابهاً. هذه الفصائل، بقيادة الجولاني، بدأت كحركات مقاومة مسلحة، ثم تطورت إلى قوة عسكرية تسيطر على إدلب وأجزاء من شمال سوريا، متبنية خطاباً أيديولوجياً يبرر استبدال الدولة الوطنية بنظام حكم إسلامي متشدد.
“في كل مرحلة تاريخية، لا يمكن فصل الطموح السياسي عن السلاح، ولا فصل الأيديولوجيا عن السلطة.”
هل أحمد الشرع /الجولاني.. قطز العصر الجديد؟
في خطوة لافتة، أعلن الشرع حل الفصائل المسلحة ودمجها في “جيش وطني” جديد، لكنه احتفظ بسيطرته المطلقة على مفاصل هذا الجيش. هذه الاستراتيجية تُذكّر بما فعله السلطان المملوكي سيف الدين قطز، الذي أعاد ترتيب صفوف الجيش المملوكي تحت ذريعة مواجهة المغول، ليؤسس لاحقاً قاعدة صلبة لدولة مملوكية قوية، وهو ما أكمله الظاهر بيبرس بعده.
الشرع يسير على الخطى نفسها، ولكن بخلفية أيديولوجية مختلفة. قراره بحل الفصائل المسلحة لا يعني إنهاء دورها، بل هو تكتيك سياسي يهدف إلى ضمان ولائها كخلايا نائمة يمكن استدعاؤها عند الحاجة لترسيخ حكمه، تماماً كما فعل المماليك الذين احتفظوا بنفوذهم داخل الجيش حتى بعد حلِّ الفصائل المنافسة لهم.
“السلطة لا تُمنح، بل تُنتزع بحنكة سياسية تتقن فن الخداع والتمويه.”
قرارات مريبة.. إعادة تشكيل السلطة بعباءة إسلامية
قرارات الشرع الأخيرة توحي بأنه يسعى للهيمنة المطلقة على مفاصل الحكم، مستخدماً ذرائع دستورية وتنظيمية لتمديد بقائه في السلطة.
أبرز هذه القرارات:
- بوَّأ نفسه رئيساً للجمهورية بدون استحقاق شرعي، في حين كان عليه أن يكون رئيس سلطة الأمر الواقع لفترة مؤقتة ومحددة الزمن ريثما يتم الترتيب لإجراء انتخاب شعبي ديموقراطي.
- اغتصب السلطة التشريعية كي يتفرَّد في اتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بمستقبل سوريا الجديدة.
- حلَّ الأحزاب الوطنية التقليدية: مما خلق فراغاً سياسياً خطيراً، يذكرنا بما فعله جمال عبد الناصر في عهد الوحدة بين مصر وسوريا.
- تسريح عناصر القوات المسلحة السورية: وإعادة بناء الجيش تحت قيادة مقاتلين أجانب، مما يشكل خطراً حقيقياً على هيكلية الجيش ويهدد بفقدان سيادة الدولة على مؤسساتها العسكرية.
- تعيين الوزراء من صفوف الفصائل: وتوزيع المناصب السيادية على الأقارب والمقربين، ما جعل الحكومة ذات لون أيديولوجي واحد يتبنى الفكر المتشدد نفسه الذي نشأ عليه الجولاني في تنظيم القاعدة.
“عندما تتحكم الأيديولوجية المتشددة في مفاصل الدولة، يصبح الخطر على الوحدة الوطنية أمراً حتمياً.”
التداعيات الاقتصادية والاجتماعية: دروس من أفغانستان واليمن وليبيا
إنَّ السيناريو الذي يتجه إليه الوضع السوري، إذا استمر على هذا المنوال، ينذر بانهيار شامل شبيه بما حدث في دول أخرى مزقتها الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة.
الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية لهذا السيناريو خطيرة ومقلقة. سوريا، التي تعاني أصلاً من انهيار اقتصادي غير مسبوق، ستواجه تداعيات كارثية في حال استمر هذا المسار:
- الاقتصاد في قبضة الفصائل: مع إحكام الفصائل سيطرتها على مفاصل الدولة، من المتوقع أن تزداد عمليات تهريب الموارد ونهب الثروات الطبيعية، مما سيعمق الأزمة الاقتصادية ويزيد من معاناة الشعب السوري.
- هروب رؤوس الأموال: لن يجد المستثمرون بيئة آمنة للعمل، مما سيؤدي إلى هجرة رؤوس الأموال المحلية والأجنبية، وبالتالي مزيد من البطالة والفقر.
- تفكك البنية الاجتماعية: سيؤدي تغلغل الفكر الأيديولوجي في مؤسسات الدولة إلى تآكل النسيج الاجتماعي السوري، وزيادة الانقسامات الطائفية والعرقية، وهو ما يهدد وحدة البلاد واستقرارها على المدى البعيد.
“إذا سقط الاقتصاد، تتهاوى الدولة، ولا تبقى إلا سلطة السلاح تحكم بقبضة من حديد على أنقاض وطن جائع.”
- سيطرة الفصائل على الاقتصاد المحلي تعني تحول البلاد إلى اقتصاد حرب، حيث تصبح الموارد الوطنية مثل النفط والزراعة في يد قادة الفصائل، وهو ما يؤدي إلى احتكار السلع الأساسية وارتفاع الأسعار بشكل جنوني. على سبيل المثال، في ليبيا، تسببت سيطرة الميليشيات على حقول النفط في انهيار العملة المحلية وارتفاع نسبة البطالة إلى أكثر من 30%.
- هروب رؤوس الأموال: تماماً كما حدث في اليمن، سيؤدي غياب الاستقرار السياسي والأمني إلى هجرة رؤوس الأموال المحلية والأجنبية. اليمن فقد أكثر من 80% من استثماراته الصناعية والتجارية خلال السنوات الأخيرة، مما ضاعف نسبة الفقر لتتجاوز 70% من السكان. السيناريو السوري قد يكون أشد قسوة، نظراً لتفكك المؤسسات الاقتصادية والدمار الكبير في البنية التحتية.
- ازدهار الاقتصاد الأسود: مع غياب الدولة، يزدهر اقتصاد الظل مثل تهريب الأسلحة والمخدرات وفرض الإتاوات، مما يحول البلاد إلى منطقة نفوذ لعصابات وجماعات مسلحة. لقد شهدت أفغانستان نمطاً مشابهاً، حيث تحول إنتاج الأفيون إلى المصدر الرئيسي لتمويل الميليشيات. في سوريا، يمكن أن يتحول شمال البلاد إلى بؤرة تهريب إقليمي خطير.
“إقتصاد الحرب لا يعرف سوى الجوع والخراب. وإذا لم يُوقف هذا السيناريو، فإن الأجيال القادمة سترث وطناً بلا موارد، ومجتمعاً غارقاً في الفقر والصراعات.”
على الصعيد الاجتماعي، التداعيات أكثر خطورة
- تفكك المجتمع بسبب تصاعد الخطاب الأيديولوجي المتطرف، مما يعمّق الانقسامات الطائفية والمذهبية.
- تدمير التعليم: كما في أفغانستان واليمن، يتحول التعليم إلى أداة أيديولوجية تُزرع فيها أفكار التطرف، بدلاً من أن يكون وسيلة لبناء المستقبل. في سوريا، السيطرة الأيديولوجية على المناهج التعليمية قد تجعل أجيالاً بأكملها ضحية لتلقين فكري يقطعها عن العالم الحديث.
- هجرة العقول: ستتكرر مأساة هجرة النخب والعقول العلمية كما حدث في العراق وليبيا، مما يترك البلاد دون كفاءات قادرة على النهوض من جديد.
آراء السوريين.. بين التفاؤل، الحذر، والرفض القاطع
تتفاوت مواقف السوريين تجاه تحركات الشرع ونواياه المستقبلية:
- الشريحة الأولى: العامَّة من أفراد المجتمع الذين اعتبروا الجولاني مُخَلصَّاً، يرون فيه “هبة من الله” خلصتهم من نظام الأسد. هذه الفئة تتحرك بعواطفها، دون إدراك للتبعات السياسية الخطيرة على المدى البعيد.
- الشريحة الثانية: النخب السياسية المخضرمة، وتنقسم إلى فريقين:
- الأول (وهم من ذوي الفكر الإسلامي الطامع الوصول إلى السلطة بأي ثمن) يراقبون بحذر، متمنين أن يصدق الشرع في وعوده ببناء دولة دينية مستقرة.
- الفريق الثاني يرى في تحركاته إعادة إنتاج لحقبة من الصراعات الداخلية الخطيرة.
- الشريحة الثالثة: فئة قليلة يمكن وصفها بـ”القَدَريين“، الذين يتبنون موقفاً ستاتيكياً محايداً، ويقولون: “ما اختاره الله هو الخير.” وكذاك المثل الشائع “منْ يتزوج أمي يصبح عمي”.
“المستقبل ملك لمن يستشرفون الخطر قبل وقوعه، وليس لمن ينتظرون معجزة.”
الدور الدولي والإقليمي.. لعبة المصالح الكبرى
في زمن المماليك، كانت المنطقة ساحة لصراعات كبرى بين المغول، الصليبيين، والقوى الإسلامية. وقد استطاع المماليك استثمار هذه الصراعات لضمان بقائهم وتعزيز سلطتهم.
اليوم، تبدو سوريا في موقع مشابه، حيث تتقاطع فيها مصالح دولية وإقليمية:
- تركيا تدعم الفصائل الإسلامية المسلحة لتحقيق مشروعها التوسعي في شمال سوريا.
- الولايات المتحدة تغض الطرف عن تحركات الجولاني، معتبرة إياه أقل خطورة من التنظيمات الأكثر تشدداً، بل ربما تراه مرشحاً لإدارة المنطقة في إطار التسويات المستقبلية.
- روسيا وإيران تحاولان الحفاظ على مصالحهما، بينما ترقبان تحركات الجولاني بحذر، خوفاً من فقدان السيطرة على ما تبقى من الأراضي السورية.
إنّ الخوف الأكبر هو أن تدخل سوريا في حقبة جديدة من الحكم الأحادي، حيث تُختزل الدولة في مشروع أيديولوجي متشدد بدعم إقليمي ودولي. إذا لم تتوحد القوى الوطنية لملء هذا الفراغ، فإن سوريا قد تجد نفسها في فخ صراعات داخلية جديدة، تتفكك فيها الدولة لصالح قوى محلية وإقليمية متصارعة، بينما يبقى الشعب السوري الضحية الأولى.
“في السياسة الدولية، لا توجد صداقات دائمة، بل فقط مصالح تتحكم في مسار الأحداث.”
خاتمة: هل يتكرر التاريخ في ثوب جديد؟
الخوف الأكبر هو أن تدخل سوريا في حقبة جديدة من الحكم الأحادي، حيث تُختزل الدولة في مشروع أيديولوجي ضيق بدعم إقليمي ودولي، مما يهدد وحدة البلاد وهويتها الوطنية. لكن التاريخ نفسه يعلّمنا أن الوعي الشعبي وقدرة النخب الوطنية على استشراف المخاطر يمكن أن يشكّلا صمام أمان ضد تكرار مثل هذه السيناريوهات.
على الشعب السوري، بكل أطيافه، أن يعي أنَّ معركة الحفاظ على الوطن لا تقل خطورة عن معارك التحرر من الاستبداد. المطلوب اليوم ليس الاكتفاء بالمراقبة أو انتظار الفرج، بل التحرك الفوري نحو تشكيل جبهة وطنية عريضة تتجاوز الانقسامات الأيديولوجية والطائفية، تعمل على:
- توحيد الصف الوطني بعيداً عن مشاريع التبعية الخارجية.
- تقديم مشروع وطني جامع يعيد الثقة للشعب ويمنحه بديلاً حقيقياً عن الفصائلية والفوضى.
- فضح المشاريع المشبوهة التي تهدف إلى تفتيت البلاد وبيع قرارها السيادي.
- تفعيل دور الإعلام الوطني في كشف المخاطر القادمة وتحفيز الناس على التصدي لها.
على القوى الإقليمية والدولية التي تزعم دعم استقرار سوريا أن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية والسياسية، وتتوقف عن العبث بمستقبل البلاد من خلال دعم قوى أمر واقع لا تمثل تطلعات السوريين.
نداء: “لا تسمحوا للتاريخ أن يتحول إلى لعنة أبدية. آن الأوان لأن تقولوا كلمتكم، فالوطن لا يُحمى بالشعارات ولا ينتظر من يساوم على مستقبله. قولوا كلمتكم اليوم قبل أن تبكوا غداً على أنقاض وطنٍ ضاع إلى الأبد في غياهب اتفاقيات إبراهام وصفقة القرن وسطوة إسرائيل الكبرى. إنَّ حيزوم سفينة” الشرع” مُوجَّه مسبقاً من قبل تحالف أمريكي – تركي – إسرائيلي”. ومن يعش دهراً سيرى عجباً.