في المؤتمر الوطني الذي انعقد في دمشق وتحوّل موضوعياً إلى ملتقى الحوار السوري، ألقى رئيس سلطة الغلبة الانتقالية أحمد الشرع كلمة مقتضبة حملت عنوان “من يحرر يقرر“. وعلى الرغم من قصرها، فقد كشفت هذه الكلمة عن توجهات سياسية تحمل في طياتها مخاطر جدية على مستقبل الديمقراطية في سوريا.
“فكما قبلتم منا هذا النصر فأرجو متكرمين أنْ تقبلوا منا طرائقه” – من خطاب أحمد الشرع
وعبر لغة حازمة، أكدَّ قائد السُلطة الغالبة على وحدة سوريا، ضبط السلاح، والاعتماد على الجهود الذاتية لإعادة الإعمار، لكنه في الوقت ذاته وضع إطاراً مغلقاً للمستقبل السياسي، مستبعداً بشكل واضح أيّة طموحات سياسية أو مساحات للحياة الحزبية والتعددية السياسية. وبدا ذلك واضحاً في سياق عدة عبارات تم ذكرها أثناء الخطاب.
لقد كان من الملاحظ جلياً أنَّ ما جاءت فيه الكلمة، هو دفع نحو إجهاض ولادة الحياة الديمقراطية، إذْ توجهت نحو نهج سلطوي جديد، كإعلان صريح عن نية السلطة الانتقالية فرض رؤية أحادية، حيث بدا واضحاً أن المؤتمر الوطني التمثيلي لن يتحول إلى هيئة تأسيسية تعكس التنوع السوري، بل سيبقى أداة لتعزيز سلطة الجماعة الحاكمة.
هذه المقاربة تعني أن مستقبل سوريا لن يكون محكوماً بحوار سياسي ديمقراطي، بل بنهج سلطوي يكرس عقلية “الحاكم الواحد“، مستبدلاً الدولة بالمشروع الفصائلي الدَعَوي.
وفق هذا التصوّر، يعتقد الكثيرون أنَّ هذا التفكير له تأثير مباشر على حركة المجتمع والسياسة وأنَّ انعكاسات هذا التوجه على المجتمع السوري بالغة الخطورة، إذْ إنه يغلق الباب أمام أي حراك مدني أو سياسي مستقل، ويجعل مؤسسات الحكم والدولة خاضعة لمراكز قوى ذات توجهات أيديولوجية ضيقة. وبذلك، يتحول السوريون من مواطنين إلى مجرد أفراد تحت سلطة شمولية، تُقيّد حرياتهم العامة والخاصة، وتفرض تدريجياً رقابة مشددة على الإعلام وحرية التعبير. فبدلاً من بناء دولة مؤسسات، يبدو أننا أمام تجربة جديدة من الحكم الفصائلي-الأيديولوجي، الذي لا يختلف كثيراً عن النماذج الاستبدادية السابقة الحكم العسكري-العقائدي.
وفق هذا السياق لا بد من التفكير أيضاً بالتداعيات الإقليمية والدولية، إذْ سوف يضع هذا النهج سوريا حتماً بين العزلة والتدخلات؛ وفي مواجهة تحديات خطيرة. فمن جهة، قد يؤدي إلى عزلة سياسية، حيث لن تجد القوى الإقليمية والدولية في هذا النموذج السلطوي شريكاً يمكن الوثوق به لبناء استقرار حقيقي.

ومن جهة أخرى، فإنه يمنح القوى الخارجية، مثل إسرائيل، فرصة لمواصلة استراتيجياتها التوسعية في الجنوب السوري، مستغلة الانقسامات الداخلية وانشغال السلطة الجديدة بتثبيت أركان حكمها بدلاً من مواجهة التهديدات الاستراتيجية.
أما دولياً، فإن تأخر العملية الديمقراطية في سوريا يعني استمرار حالة عدم الاعتراف الكامل بأي حكومة مستقبلية تنبثق من هذا النهج، مما يعقد أي جهود لإعادة الإعمار أو تحقيق الاستقرار طويل الأمد.
المستقبل السوري إلى أين؟
على ما يبدو أن خطاب الشرع – حسب رأي أغلبية المراقبين السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان والمجتمع المدني – أنه لم يكنْ مجرد تأكيد على واقع سياسي جديد، بل كان بمثابة إعلان رسمي عن نهاية الحلم الديمقراطي في سوريا، على الأقل في المدى المنظور.
بينما كان من المفترض أن يمثل “المؤتمر” ملتقى الحوار السوري خطوة نحو بناء دولة حديثة قائمة على التعددية، وبالعكس قد يتحول إلى نقطة انطلاق لمرحلة أخرى من الاستبداد، لكن هذه المرة بغطاء جديد سُلطة الغلبة الغالبة.
السؤال الأهم الذي يطرح نفسه الآن:
هل يمكن للسوريين كسر هذا المسار وإعادة إحياء مشروع الأجداد المؤسسين نحو تأسيس جبهَوّي مدنيّ وطنيّ ديمقراطيّ، أم أن البلاد مقبلة على نموذج استبدادي آخر يعيد إنتاج المأساة ؟ وهل ستتقلص فيه الأوطان؟.
باريس : 26/02/2025.