مقدمة
في مشهد سياسي يبدو أقرب إلى رقعة شطرنج إقليمية، تُدفَع سوريا لتكون ساحة تسويات متشابكة بين لاعبين كبار، على رأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بإدارة مايسترو المشهد الأمريكي، دونالد ترامب.
وفق تسريبات نشرها موقع Middle East Eye، فقد أبلغ ترامب نتنياهو أن بإمكان واشنطن حل أي خلاف بين إسرائيل وتركيا بشأن سوريا، مشيراً إلى “علاقة رائعة” تربطه بأردوغان، ومطالباً نتنياهو بالتصرف بعقلانية في إدارة هذا الملف. وفي الكواليس، جرت محادثات بين أنقرة وتل أبيب لتفادي الاحتكاك العسكري في سوريا، وهو ما يُنذر بإعادة رسم حدود النفوذ في الساحة السورية، لا وفق مصالح أهلها، بل حسب أهواء اللاعبين الخارجيين.
“السياسة هي فن الممكن، لكن في الشرق الأوسط، أحياناً تصبح فن التواطؤ.” ــ فريد زكريا، محلل سياسي أميركي
“زفاف سوريا الجديدة”: وصاية من نوع جديد
يبدو أن الولايات المتحدة تروّج الآن لما يمكن تسميته بـ”زفاف سوريا الجديدة”، حيث العروس السورية تُقدَّم على طبق من نار بين تركيا وإسرائيل. تصريحات ترامب لنتنياهو بأن عليه التعامل مع أردوغان بهدوء، تعكس رغبة أمريكية في تهدئة الساحة السورية، لكن على حساب السيادة السورية.
التوجه الأمريكي –كما يُفهم من هذا الموقف– يتمثل في تقسيم غير معلن للنفوذ، بحيث تهيمن إسرائيل على الجنوب، وتركيا على الشمال، بحجة منع الفراغ الأمني واحتواء التنظيمات الإرهابية، وهو ما يخدم عملياً مصلحة كل من تل أبيب وأنقرة.
هل خذل ترامب نتنياهو؟
من اللافت أن ترامب، الذي طالما اعتُبر حليفاً قوياً لإسرائيل، قدّم خطاباً مختلفاً في هذا اللقاء. إذ بدا أكثر ميلاً لدعم تركيا، وهو ما فُسِّر على أنه توبيخ مبطّن لنتنياهو، وتأكيد على أن إسرائيل ليست اللاعب الوحيد في المنطقة. هذا التوازن “المدروس” قد يهدف إلى توزيع الأدوار دون الوصول إلى صدام مباشر بين الطرفين.
“عندما تُعطى تركيا دور الشرطي في شمال سوريا، وإسرائيل في الجنوب، فإنك عملياً تقسم سوريا دون أن تعلن ذلك.” – المحلل السياسي عمر عاشور، مركز دراسات الشرق الأوسط
فرنسا تدخل على خط اللعبة
في تطور مفاجئ، جرى لقاء غير معلن في باريس بين وزيري الخارجية التركي والإسرائيلي، برعاية فرنسية. تشير هذه الخطوة إلى محاولة أوروبية لدخول المعادلة التي تديرها واشنطن حالياً، وربما لتخفيف الغليان بين أنقرة وتل أبيب في ظل الانفتاح السوري على العواصم العربية.
لكن على الرغم من هذه الجهود، لم تُظهر الولايات المتحدة نية حقيقية لتغيير موقفها من دمشق، ما عدا بعض التلميحات لتخفيف العقوبات، في خطوة تُفسَّر على أنها تهدئة مؤقتة دون اعتراف سياسي أو دبلوماسي.
الأجندة الأمريكية: انسحاب المنتصر
من الواضح أن الإدارة الأمريكية تسعى لانسحاب من سوريا بطريقة تحفظ ماء الوجه، على عكس ما جرى في أفغانستان. والوسيلة لتحقيق ذلك هي:
- تسليم النفوذ تدريجياً لحلفاء مثل تركيا.
- تأمين المناطق الكردية وحماية سجون داعش.
- منع إيران من التمدد مجدداً في سوريا.
- ضمان أمن إسرائيل، بما في ذلك تأمين الجولان.
هذا التوجه يفسّر دعم ترامب لأردوغان في بناء قواعد عسكرية داخل سوريا، وهو ما رفضته وزارة الدفاع التركية علناً، رغم أن المعطيات على الأرض تسير باتجاه دعم أمريكي غير مباشر لهذا السيناريو.
“السيادة لا تُمنح، بل تُنتزع، وسوريا اليوم لا تملك أن تنتزعها.” – سمير العيطة، خبير اقتصادي سوري
ذرائع إسرائيلية: الأمن أم التوسع؟
إسرائيل، التي تعتبر أي وجود تركي في الجنوب تهديداً، تبرر تدخلها في سوريا بأنه “لحماية حدودها من الجماعات الجهادية التي أدخلها الأتراك”، في إشارة إلى فصائل المعارضة المسلحة. لكنها في الواقع تسعى لتكريس منطقة آمنة خالية من النفوذ المعادي على حدودها، تمهيداً لمشروعها الجيوبوليتيكي الأوسع.
وتُذكّرنا هذه الذرائع بما قاله رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، مناحيم بيغن:
“ليس هناك حدود لإسرائيل، بل حدود أمنية فقط.”
سوريا بين المطرقة التركية والسندان الإسرائيلي
في ظل هذه الاصطفافات، يصبح المشهد السوري أكثر تعقيداً، حيث تحاول واشنطن رسم ملامح جديدة للمنطقة دون صدام مباشر بين حلفائها. لكن الواقع على الأرض يشير إلى احتدام تنافس النفوذ، واحتمالية حدوث اشتباك، خصوصاً في ظل رفض إسرائيل العلني لأي تنسيق بين تركيا والحكومة السورية.
ما يُقلق فعلياً هو أن سوريا أصبحت ورقة مساومة، يُعاد ترتيبها لتناسب مصالح الآخرين، بينما السوريون مغيّبون عن تقرير مصيرهم.
روسيا وإيران: الغائبان الحاضران في معادلة النفوذ الجديد
رغم هيمنة المشهد التركي-الإسرائيلي في تحليلات اللحظة الراهنة، إلا أن التقارب بين الطرفين لا يمكن قراءته بمعزل عن موقف القوى الأساسية الأخرى في سوريا، وهما روسيا وإيران.
روسيا، الضامن الأبرز للنظام السوري، تجد في أي تفاهمات تركية-إسرائيلية تهديداً لمكاسبها الاستراتيجية. فهي وإنْ بدت منفتحة على الحراك التركي سابقاً، إلا أنها تعتبر إسرائيل لاعباً منفلتاً في سوريا لا يُمكن الوثوق بتوجهاته، خصوصاً في ظل هجماتها المتكررة على المواقع الإيرانية والسورية.
أما إيران، التي تعتبر سوريا حلقة مفصلية في “محور المقاومة“، فترى في التقارب التركي الإسرائيلي خطوة تهديد مباشرة لنفوذها. وإذا ما اكتسب هذا التقارب شرعية أمريكية، فقد يدفع طهران إلى تعزيز وجودها العسكري غير المباشر عبر المليشيات الحليفة لها.
“روسيا تسعى إلى إعادة ضبط إيقاع النفوذ في سوريا، لكن دون خسارة تركيا أو استفزاز إسرائيل.
وهي معادلة شبه مستحيلة في الوقت الراهن.” – د. فؤاد إبراهيم، باحث في الشؤون الجيوسياسية
إذن، التقارب التركي الإسرائيلي، رغم دعم واشنطن له، يصطدم بحسابات أوسع لم تُحسم بعد، مما يجعل المشهد السوري أكثر قابلية للانفجار لا التهدئة.

الفصائل المدعومة تركياً: ما بين إعادة التدوير أو الاستنزاف
في حال تطور التفاهم التركي الإسرائيلي إلى خطوات فعلية على الأرض، فإن مستقبل الفصائل السورية المسلحة المدعومة من تركيا سيصبح في مهبّ الريح.
فتركيا قد تجد نفسها مضطرة إلى “تدوير” هذه الفصائل باتجاه دور أمني أو سياسي جديد يتماشى مع التفاهمات الدولية، أو أنها ستُستنزف وتُدمج تدريجياً ضمن بنى أمنية محلية خاضعة للرقابة التركية المباشرة.
وهنا تبرز المفارقة: فالفصائل التي خُلقَت لمواجهة النظام السوري، قد يُعاد توظيفها اليوم كأداة لضبط الأمن في مناطق النفوذ التركي – وربما حتى في منع أي صدام مع إسرائيل.
“ما يُسمّى بالجيش الوطني السوري تحوّل في بعض المناطق إلى أداة لضبط الشارع أكثر من كونه فاعلاً ثورياً.” – نزار السهلي، كاتب وباحث سوري
وفي المقابل، الفصائل غير المنضبطة قد تجد نفسها محاصرة سياسياً وعسكرياً، في ظل تفاهمات قد لا يكون لها فيها أي دور أو صوت.
اللاجئون السوريون: الضحايا الدائمون في لعبة النفوذ
من أكثر الملفات حساسية في هذا المشهد المعقد، هو ملف اللاجئين السوريين. فمع كل تغيير في خارطة النفوذ، تزداد أوضاعهم هشاشة، وتُستخدم قضيتهم كورقة ضغط إقليمية.
في حال استمر التقارب التركي الإسرائيلي تحت رعاية أمريكية، فإن اللاجئين السوريين في تركيا قد يُستخدمون كعنصر تفاوضي ضمن “صفقة شاملة” لإعادة ترتيب الوضع في شمال سوريا، عبر مشاريع “العودة الطوعية” أو التوطين في مناطق النفوذ التركي.
لكن الحقيقة المؤلمة أن معظم هذه المشاريع لا تستند إلى معايير إنسانية، بل إلى حسابات سياسية وأمنية، ما يجعل مستقبل اللاجئين رهينة للصفقات لا لحقوقهم الأساسية.
“القانون الدولي يقرّ بأنَّ العودة الطوعية للاجئين يجب أن تكون آمنة وكريمة، لا أن تكون قسرية أو انتقائية.” – المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)
أما المجتمع الدولي، فرغم بعض المحاولات لتحسين الظروف الإنسانية، إلا أن دوره لا يزال خجولاً في الضغط من أجل حل سياسي يضمن عودة حقيقية مستدامة تحفظ كرامة اللاجئين وتراعي حقهم في تقرير مصيرهم.
خاتمة: هل ما زال للسوريين من خيار؟
إنَّ التفاهمات الدولية التي تُنسَج على حساب الشعب السوري، تعكس بوضوح أنَّ السيادة الوطنية لم تعد مُسلّمة، بل باتت سلعة تُساوَم عليها في دهاليز السياسة العالمية.
التقارب التركي الإسرائيلي ليس مشروع تهدئة بقدر ما هو محاولة لإعادة تقاسم الغنيمة السورية. وبين مطرقة التفاهمات وسندان الغياب العربي، تتآكل فرص بناء سوريا حرة مستقلة بقرارها.
لكنَّ الأمل لا يُقبر.
ما زال للسوريين أن يُعيدوا الإمساك بمصيرهم، عبر إعادة توحيد صفوفهم في مشروع سياسي جامع، وفرض إرادتهم الشعبية بالدستور، والانتخابات، والمشاركة المجتمعية، بعيداً عن هيمنة الخارج. فالبلد لن يُبنى إلا بسواعد أبنائه.
“الشعوب لا تنهزم إذا قررت أن تعيش بكرامة.” – عبد الرحمن الكواكبي.