استهلال
في وقتٍ تتشابك فيه خيوط المشهد السوري المعقّد والمثقل بالجراح، وتتطلع عيون السوريين إلى غدٍ يحمل الأمل رغم التحديات، تبرز قصة جبل العرب “الموحدون الدروز” كنموذج فريد في كيفية التفاعل مع التحوّلات العاصفة التي عصفت بالوطن منذ عام 2011.
الحذر الذي يلتزمه أبناء هذا الجبل الأصيل ويقظتهم المستمرة في خضم الصراعات، ليسا نتاج اللحظة، بل هما امتداد لإرث تاريخي طويل من النضال والممانعة في وجه كل ما يهدد الهوية والانتماء. من مقاومة الاستعمار الفرنسي، إلى الانخراط في ثورة الحرية والكرامة، ثم التريث المدروس أمام بروز قوى مسلحة جديدة خلال الثورة السورية – تتشكل حكاية جبل العرب من طبقات متراكمة من الكرامة، والحذر، والمواقف الوطنية الصلبة.
في هذا المقال، نُجري تحليلاً معمقاً لأسباب نشوء الأزمة الحالية بين أبناء جبل العرب وبعض الفصائل المسلحة التي كانت جزءاً من الحراك الثوري السوري، ونتناول الخلفيات التاريخية، الدينية، والاجتماعية التي صاغت الموقف الحالي.
جبل العرب في التاريخ السوري: عراقة وأصالة
لطالما تمتع “جبل العرب” معقل “الموحدون الدروز” (مركزه محافظة السويداء حالياً) بمكانة خاصة في التاريخ السوري. طبيعته الجبلية الوعرة وتماسك سكانِه الدروز، الذين يتميزون بعقيدتهم التوحيدية الفريدة وقيمهم الاجتماعية المتينة، ساهم في الحفاظ على درجة من الاستقلالية الذاتية ضمن الدولة السورية على مر العصور. لقد كان هذا الجبل ملاذاً آمناً وطريقاً صعباً أمام الغزاة والطامعين، وشكل دائماً حاضنة لهوية مستقلة.
ثورة سلطان الأطرش ضد الاحتلال الفرنسي: إرث المقاومة
طالما احتل جبل العرب مكانة متميزة في الذاكرة السورية. جعلت البنية الاجتماعية المتماسكة تتفرَّد بعاملين أساسيين في حفاظ المنطقة على نوع من الاستقلالية النسبية مقارنة بباقي المناطق الدولة السورية على مرّ العصور. وهذا أدى إلى تمسّك أبناء الجبل بعقيدتهم التوحيدية، وقيمهم المجتمعية الأصيلة، وعزّز لديهم الشعور بالخصوصية، وعمّق فيهم روح الاعتماد على الذات. كان الجبل دوماً ملاذاً صعب المنال أمام الغزاة، وحاضناً لهوية مستقلة ومنيعة.

وكما يردد كبار السن في الجبل:
“لقد علمنا أجدادنا أن الكرامة أغلى من الحياة، وأن أرضنا وهويتنا خط أحمر لا يمكن تجاوزه.”
هذه الثورة رسخت في الوجدان الجمعي لأبناء الجبل إرثاً من العزة والأنفة والاستعداد للدفاع عن الذات في وجه أي تهديد خارجي.
جيل الأحفاد وثورة 15 آذار 2011: تطلعات مشروعة وحذر متزايد
الذاكرة التاريخية والعلاقة مع السلطة المركزية:
تمتّع جبل العرب تاريخياً بهامش من الاستقلالية، فرضت واقعاً مختلفاً بالعلاقة مع السلطة المركزية في دمشق كانت دائماً متذبذبة، تراوحت بين التعاون الحذر والمواجهة المباشرة.
في عام 2011، انطلقت المظاهرات السلمية في أرجاء سوريا مطالبة بالحرية والكرامة. وقد تأخرت مشاركة شباب السويداء في هذه الموجة إلى أن اطمأنوا أنها ليست ذات صبغة طائفية كما كان يدعي النظام البائد. ولما تيقنوا بعد زمن من المراقبة المتأنية، خرجوا تعبيراً عن تطلعات مشتركة في بناء وطن حرّ، إلا أنه مع صعود الفصائل الإسلامية المتشددة التي سيطرت على المدن السورية بشكل مباغت، بدأت ملامح القلق تعود لتظهر داخل الجبل، خصوصاً مع شعور متزايد بأن الثورة انحرفت عن مسارها الأصلي.
“لقد خرجنا مطالبين بالحرية التي ناضل أجدادنا من أجلها، كنا جزءاً من حلم سوريا الجديدة، سوريا الحرة والكريمة.”

هذه المشاركة تؤكد أن أهالي الجبل لم يكونوا بمنأى عن تطلعات بقية السوريين نحو التغيير. كما أنَّ منطلقها ما زال إلى اليوم يؤكد على ما يلي:
- استقلالية تاريخية: يتمتع جبل العرب تاريخياً بدرجة من الاستقلالية الذاتية ضمن الدولة السورية. طبيعته الجبلية الوعرة وتماسك سكانِه الدروز ساهم في الحفاظ على هذه الخصوصية.
- مواقف متذبذبة من السلطة: تاريخياً، كانت علاقة الدروز بالسلطة المركزية في دمشق متذبذبة، تراوحت بين التعاون والمقاومة للحفاظ على استقلاليتهم وهويتهم الدينية والثقافية.
- دور في الثورة السورية المبكرة: كما ذكرت، شارك بعض الدروز في المظاهرات السلمية دون المساهمة بأي شكل من أشكال العنف المسلح، وبقوا يطالبون بالإصلاح والتغيير بعد اتخاذ القيادات الدينية والاجتماعية في الجبل موقفاً أكثر حذراً، خوفاً من تداعيات الحرب على المنطقة وسكانها.
صعود هيئة تحرير الشام: بواعث القلق والرفض
مع تحول مسار الثورة إلى صراع مسلح وتصاعد نفوذ فصائل ذات أجندات مختلفة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام التي تحضن فصائلاً جهادية من جنسيات مختلفة ذات صبغة إسلامية متشددة، أدت إلى تزايد مخاوف أهالي جبل العرب فهم الذين خبروا تاريخاً من التنوع الديني والثقافي في منطقتهم، نظروا بعين الريبة إلى أيديولوجية الهيئة المتشددة التي تتعارض جوهرياً مع معتقداتهم التوحيدية. وكما يمكن أن نعبر عن لسان حالهم:
“إن عقيدتنا هي جوهر وجودنا، وتاريخ هذه الجماعات في مناطق أخرى ينذر بالخطر على هذا الجوهر وعلى حريتنا في ممارسة شعائرنا.”
لقد كانت مجزرة قلب لوزة في إدلب بمثابة تذكير مؤلم بالمخاطر التي قد تنجم عن السماح لجماعات كهذه بالتوغل في مناطقهم. هذه الحادثة. حقاً لقد تركت “جرحاً عميقاً في الذاكرة الجماعية للدروز“، وعززت قناعتهم بضرورة “اتخاذ موقف استباقي للحماية“. وكما قيل حينها:
“لن ننسى دماء شهدائنا، ولن نسمح بأن تتكرر مثل هذه المآسي في أرضنا.”
هيئة تحرير الشام ونظرة جبل العرب:
1. أيديولوجيا متصادمة:
تعتنق هيئة تحرير الشام أيديولوجيا سلفية جهادية متشددة، تتناقض كلياً مع المعتقدات الدينية والفكرية للطائفة الدرزية. يخشى أبناء الجبل من محاولة فرض هذه الأيديولوجيا بالقوة، وتقييد الحريات التي حافظوا عليها عبر عقود.
2. سجل سلبي في مناطق أخرى:
وثّقت تقارير عديدة قيام الهيئة بانتهاكات في المناطق الخاضعة لسيطرتها، مثل فرض تفسيراتها الخاصة للشريعة الإسلامية، وممارسة التمييز ضد الأقليات، والتضييق على الحريات. هذا السجل زرع القلق في نفوس أبناء جبل العرب.
3. مجزرة قلب لوزة 2015: جرح لم يندمل
شكلت حادثة قلب لوزة في محافظة إدلب عام 2015، حيث قتل عدد من الدروز على يد عناصر جبهة النصرة (المكوّن الأساسي للهيئة برئاسة الجولاني قبل أنْ يكشف عن اسمه أحمد الشرع)، صدمة عميقة للمجتمع الدرزي، وزادت من يقظته.
“هذه الحادثة كانت تذكيراً مؤلماً بما يمكن أن تفعله الجماعات المتشددة، وعززت قناعة الناس أن الرفض ليس خياراً، بل واجب حماية.”
تفاصيل منع دخول هيئة تحرير الشام إلى جبل العرب:
أظهر أبناء جبل العرب موقفاً عملياً رافضاً لأي وجود للهيئة التي تحولت لحكومة الأمر الواقع في منطقتهم، من خلال:
- مقاومة شعبية: اتخذ أهالي جبل العرب خطوات عملية لمنع دخول عناصر الهيئة. شمل ذلك إقامة حواجز تفتيش شعبية على مداخل البلدات والقرى، وتنظيم دوريات محلية مسلحة من أبناء المنطقة لحماية أحيائهم.
- موقف القيادات الدينية والاجتماعية: لعبت القيادات الدينية والاجتماعية الدرزية دوراً هاماً في توحيد الموقف الرافض لدخول الهيئة. أصدرت هذه القيادات بيانات وأعلنت مواقف واضحة تؤكد على رفضها لأي وجود مسلح لا ينتمي لأبناء المنطقة.
- رسائل تحذير: وردت تقارير عن إرسال أهالي الجبل رسائل واضحة اللهجة إلى هيئة تحرير الشام تحذرهم من محاولة دخول المنطقة بالقوة، وتؤكد على استعدادهم للدفاع عن أنفسهم وأرضهم.
- تنسيق محدود مع فصائل أخرى: في بعض الأحيان، كان هناك تنسيق محدود بين أهالي جبل العرب وفصائل أخرى معارضة للنظام (ولكن ليست متشددة إسلامياً) لضمان عدم استغلال هيئة تحرير الشام للفراغ الأمني في بعض المناطق.
لماذا لم تُشفع المشاركة الثورية السابقة؟
- تغير طبيعة الثورة: يرى أهالي جبل العرب أن طبيعة الثورة السورية قد تغيرت بشكل كبير منذ عام 2011. فبدلاً من المطالب الديمقراطية والإصلاح، هيمنت عليها أجندات فصائل إسلامية متشددة لا تتوافق مع قيمهم وتطلعاتهم.
- الأولوية لحماية الهوية والوجود: بالنسبة للدروز، أصبحت الأولوية القصوى هي حماية هويتهم الدينية والثقافية ووجودهم في منطقتهم. يرون أن السماح لجماعة مثل هيئة تحرير الشام بدخول مناطقهم يمثل تهديداً وجودياً أكبر من استمرار نظام الأسد (الذي تعايشوا معه لعقود، وإن شاب هذا التعايش بعض التوترات).
- الخوف من الفتنة الداخلية: كان هناك تخوف حقيقي من أن يؤدي دخول هيئة تحرير الشام إلى المنطقة إلى إشعال فتنة داخلية بين أبناء الجبل، خاصة بين أولئك الذين شاركوا في الثورة وأولئك الذين فضلوا الحياد أو حتى دعموا النظام خوفاً من البديل الإسلامي المتشدد.
الوضع الراهن (مع الأخذ في الاعتبار أن الوقت الحالي هو نيسان 2025):
- استمرار الحذر واليقظة: من المرجح أن يستمر أهالي جبل العرب في حالة من الحذر واليقظة تجاه أي محاولات من هيئة تحرير الشام أو غيرها من الجماعات المتشددة لدخول مناطقهم.
- غياب الثقة: لا توجد أرضية مشتركة تُبنى عليها تفاهمات مع الهيئة.
- محاولات تقارب (محدودة): قد تكون هناك محاولات تقارب أو تواصل غير مباشر بين بعض الأطراف من الجانبين لتجنب الصدام، ولكن يبقى جو الثقة معدوماً.
- تأثير التغيرات في خريطة السيطرة: أي تغييرات كبيرة في خريطة السيطرة في سوريا يمكن أن تؤثر على وضع جبل العرب وعلاقته بمختلف القوى الفاعلة.
- التركيز على الحكم الذاتي المحلي: من المرجح أن يستمر أهالي الجبل في التركيز على تعزيز حكمهم الذاتي المحلي وقدرتهم على حماية مناطقهم بأنفسهم.
هل كان هناك قاسم مشترك؟
قد يتساءل البعض: ألم يكن هناك قاسم مشترك بين أهالي جبل العرب وبين بعض الفصائل التي تشكلت منها هيئة تحرير الشام في المراحل الأولى للثورة؟ الإجابة تكمن في “تغير طبيعة الثورة السورية” نفسها. فالمطالب الأولية بالإصلاح والديمقراطية سرعان ما تراجعت أمام صعود أجندات أخرى لم يرَ فيها أهالي الجبل ما يوافق تطلعاتهم أو يحمي خصوصيتهم.
وكما يمكن أن يعبر أحد مثقفي الجبل عن هذا التحول:
“لقد خرجنا مطالبين بالحرية، ولكن الحرية التي رأيناها تلوح في الأفق لم تكن هي الحرية التي حلمنا بها. كانت حرية مقيدة بأيديولوجيات لا تشبهنا وتهدد تنوعنا.”
لقد أدرك أهالي جبل العرب أن “الأولوية القصوى هي حماية هويتهم الدينية والثقافية ووجودهم في منطقتهم“، وأن السماح لجماعة مثل هيئة تحرير الشام بدخول مناطقهم قد يمثل “تهديداً وجودياً أكبر من استمرار نظام الأسد” بالنسبة لهم. وكما عبر أحد شيوخ العقل:
“لقد تعلمنا عبر التاريخ أن الحفاظ على أرضنا وعقيدتنا هو صمام الأمان لنا في وجه كل العواصف.”
اليقظة الدرزية المتجذرة في التاريخ:
إن استمرار الدروز في التمسك باتخاذ موقف الحذر واليقظة ليس ليس وليد اللحظة، أو خياراً مؤقتاً، بل مستمد من:
- استراتيجية متجذرّة في تجربتهم التاريخية مع الجماعات المتطرفة.
- الحفاظ على الهوية والخصوصية الدرزية، وحماية النسيج الاجتماعي.
- الوضع الأمني المتقلب وعدم الاستقرار الإقليمي.
- غياب الضمانات من أي جهة خارجية.
- عدم الثقة في نوايا القوى الإقليمية والدولية.
وقد ترجمت هذه اليقظة على الأرض عبر:
- إقامة حواجز تفتيش شعبية.
- تنظيم دوريات محلية مسلحة.
- التأكيد على الأولوية للاعتماد على الذات في حماية مناطقهم. وكما أكد أحد قادة الدفاع الذاتي في المنطقة:
“نحن أبناء هذه الأرض، ونحن الأقدر على حمايتها. لن نسمح لأي قوة خارجية بأن تعبث بأمننا واستقرارنا.”
إن “الذاكرة الجماعية والخوف من المستقبل” يلعبان دوراً هاماً في هذا الاستمرار في الحذر. “توارث الحذر عبر الأجيال” يجعل من اليقظة سمة أساسية في تعاملهم مع الأحداث، خوفاً من “تكرار المآسي التي تعرضت لها الأقليات في مناطق أخرى من سوريا”.
تداعيات الأحداث الصداميَّة الجارية
إن الأحداث الصداميَّة الجارية بين هيئة تحرير الشام وأهالي جبل العرب ليست مفاجئة رغم إعلان أحمد الشرع بتنصيب نفسه رئيساً للجمهوري دون شرعة قانونية. وفي ضوء هذا التاريخ وهذه المخاوف المتراكمة. إن محاولات الهيئة للتوغل في مناطق ذات حساسية دينية وثقافية كهذه، تقابل برفض شعبي لا تشوبه سمةً طائفية، بل مقاومة عنيدة نابعة من إرث طويل من الدفاع عن الذات والهوية. هذه الصدامات تحمل في طياتها خطر اتساع دائرة العنف وزيادة الاحتقان الطائفي في البلاد، وهو ما يجب على جميع السوريين التنبه إليه وتجنبه.
خاتمة: الحذر ليس انعزالاً، بل مقاومة ناعمة
قصة جبل العرب ليست مجرد سردية محلية، بل مرآة لما تواجهه كثير من الأقليات والمجتمعات في سوريا. حكاية عن هوية تُصان بالحكمة، ومجتمع يفضّل الاستقلال الذاتي على الانخراط في مشاريع لا تمثّله.
يقظة أهالي الجبل ليست موقفاً سلبياً، بل تعبير عن وعي جمعي، يرى في المحافظة على الذات أولوية، وفي استقلالية القرار صمام أمان لبناء مستقبل أكثر اتزاناً.
والسؤال الأبرز يبقى: ماذا بعد؟
- هل تمتلك “حكومة الشرع” المؤقتة آلية لجسر الهوة مع القوى الرافضة لحكمها؟
- هل تستطيع تقديم مشروع وطني يتجاوز منطق “من يحرر يقرر“؟
- وهل تعي خطورة تقسيم سوريا إلى كانتونات تهدد وحدة البلاد؟
كل هذه الأسئلة تبقى معلّقة حتى إشعار آخر، بانتظار أجندات أكثر عقلانية، ومبادرات وطنية حقيقية، كي تثبت حكومة الأمر الواقع أنَّ أجدنتها وطنية تحقق آمال الشعب الذي قدم أغلى الأرواح والأثمان عندما قام بثورته.