جدول المحتويات
- المقدمة
- التحليل التاريخي والسياسي
- الركائز الدستورية والقانونية
- تعزيز الانتماء والمواطنة الفعلية
- الإصلاح الأمني وإعادة هيكلة القوات المسلحة
- دور المجتمع المدني والمشاركة السياسية
- التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية
- التطبيقات المقارنة والدروس المستفادة
- الخلاصة والاستنتاجات
1. المقدمة
في تطور دبلوماسي لافت، التقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع يوم الأربعاء 14 أيار 2025، في العاصمة السعودية الرياض، في أول لقاء من نوعه بين رئيسي البلدين منذ 25 عاماً برعاية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وبمشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر الاتصال المرئي. جاء في هذا الاجتماع تأكيد الرئيس ترامب عن رفع جميع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، بما في ذلك تلك المنصوص عليها في “قانون قيصر” . (The Washington Post)
أعلن ترامب خلال الاجتماع عن رفع جميع العقوبات الأميركية على سوريا، مؤكداً أن هذه الخطوة تهدف إلى منح البلاد “فرصة جديدة” بعد سنوات من الحرب والعزلة الدولية، معرباً عن ثقته في قدرته على توحيد سوريا واستقرارها .(NPR)
ورغم إعلان ترامب، فإن تنفيذ رفع العقوبات، خاصة تلك المرتبطة بـ”قانون قيصر”، يواجه تحديات قانونية وتشريعية. يتطلب إلغاء هذا القانون موافقة الكونغرس، حيث لا يزال هناك انقسام بين المشرعين بشأن التعامل مع النظام السوري الجديد. بالإضافة إلى ذلك، أعربت بعض الجهات، مثل إسرائيل، عن قلقها من التقارب الأميركي مع القيادة السورية الجديدة.
يُتوقع – إنْ نَفّذ الرئيس الشرع الشروط الخفية كاملة – أن يفتح هذا اللقاء صفحة جديدة في العلاقات الأميركية/السورية، مع إمكانية تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. كما قد يسهم رفع العقوبات في تسريع جهود إعادة الإعمار في سوريا، خاصة مع دعم دول إقليمية مثل السعودية وتركيا. ومع ذلك، تبقى التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية قائمة، مما يتطلب جهوداً مستمرة لضمان استقرار البلاد ونجاح المرحلة الانتقالية .
هذا اللقاء يمثل تحولاً مهماً في السياسة الأميركية تجاه سوريا، ويعكس رغبة في إعادة تقييم العلاقات الإقليمية بما يخدم مصالح الاستقرار والتنمية في المنطقة، خاصة لأنَّ سوريا اليوم تواجه تحديات معقدة تتعلق بتأسيس دولة مدنيّة تشمل جميع المكونات الإثنية والدينية على حد سواء.
إن بناء دولة مدنيّة متعددة الإثنيات والعقائد يستدعي إعادة النظر في الأسس الدستورية والقانونية وتعزيز الانتماء الوطني الذي يتجاوز الحدود الطائفية والقبلية. ويعود ذلك إلى خلفية تاريخية معقدة امتزجت فيها النزاعات الداخلية والتأثيرات الإقليمية والدولية، ما يجعل من الضروري تبني نموذج شامل يقوم على مبادئ العدالة والمساواة والتعايش السلمي.
تتناول هذه الدراسة أهم الركائز والآليات التي يمكن اتباعها لبناء دولة مدنيّة متماسكة في سوريا، مع الاستناد إلى أمثلة تاريخية ونظرية من داخل العالم العربي ومن مفكرين عرب ودوليين، بالإضافة إلى تحليل نقدي للظواهر السلبية التي تعيق تحقيق هذا الهدف.
2. التحليل التاريخي والسياسي
2.1 الخلفية التاريخية
على مر العقود، شهدت سوريا تغييرات كبيرة في الهيكل السياسي والاجتماعي أدت إلى تفاقم الانقسامات بين المكونات المختلفة. فقد ازدادت حدة التوترات الطائفية والإثنية مع مرور الزمن، مما أثر بشكل مباشر على استقرار الدولة وحدّ من إمكانياتها في تحقيق تطوير شامل. تاريخ سوريا يخدم كمرجعية لفهم كيفية تأثير سياسات الحكم على الفئات المتنوعة، حيث تبين أن الفشل في تحقيق التعايش السلمي أدى إلى تفشي التطرف وعدم الاستقرار.
2.2 التأثيرات الإقليمية والدولية
تواجه الأنظمة في سوريا تحديات من عوامل خارجية أدت إلى تعميق التباينات الداخلية. ففي ظل الضغوط الدولية والمحاولات للتدخل، برزت حاجة إلى نموذج حكم يتيح مشاركة جماعية لجميع المكونات دون تأثر مفرط بمصالح خارجية. كما أن دراسات حالة دول أخرى – لبنان مثالاً- تُظهر أن نماذج الحكم التي تركز على توزيع السلطة وفق الانتماءات الطائفية قد تؤدي إلى تدعيم الانقسامات بدلاً من العمل على توحيد المجتمع.
2.3 التناقضات في نماذج الحكم السابقة
اعتمدت بعض الدول على نماذج التوافق الطائفي أو ما يعرف ب(الكونسوسيونالية) لتأمين توزيع السلطة، إلا أن هذه النماذج غالباً ما أكدّت على الهوية الجماعية بدلاً من الهوية الوطنية الفردية، مما أدى إلى استمرارية النزاعات الداخلية. وفي سوريا، أدى هذا النهج إلى تأجيج الانقسامات وإدامة نظام قائم على الولاءات الطائفية والقبلية.
مصطلح الكونسيسيونالية أو الامتيازات الكونسيسيونية (Concession system / Concessionary) هو مصطلح يُستخدم غالباً في السياقات الاقتصادية والسياسية، وخاصة في تاريخ الشرق الأوسط.
3. الركائز الدستورية والقانونية
3.1 ضمان مبدأ المواطنة المتساوية
يعتبر الحق في المواطنة أساساً لبناء دولة مدنيّةعادلة. وتستند هذه المطالبة إلى مبادئ القانون الدولي والاتفاقيات الدولية التي تؤكد على المساواة في الحقوق بغض النظر عن الانتماء الديني أو الإثني. يمكن القول بأن من أهم الإجراءات هو صياغة دستور دائم يضمن – تماماً – عدم التمييز ويوضح توزيع الحقوق والواجبات على أساس فردي بدلاً من جماعي.
3.2 إعادة صياغة قوانين الأسرة والقانون المدني
تُعد قوانين الأسرة والنظام القضائي من المجالات الحيوية التي تنعكس فيها الهوية الثقافية والطائفية. إذ تكشف الدراسات حول التجارب القانونية في سوريا وبلدان عربية أخرى (لبنان مثالاً) عن أن تعدد القوانين الشخصية يؤدي إلى تفاقم التمييز بين المواطنين. لذا ينبغي الإسراع في تبني قانون يُراعي تنظيم الأحوال المدنية الشخصية بصورة تكفل احترام العقائد الدينية المختلفة، مما يضمن تطبيق العدالة على كافة المواطنين دون تحيز لأحد.
3.3 فصل السلطات وضمان استقلال القضاء
إن تأسيس نظام قضائي مستقل وخالٍ من التدخل السياسي يعدّ ضرورة ملحة. يجب فصل السلطات عن الجهاز التنفيذي بشكل صارم لضمان ممارسة حقوق المواطن بصورة محايدة وعادلة. كما أن تطبيق سيادة القانون يعد من الدعائم الأساسية لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، وهو ما يستدعي إعادة هيكلة الجهاز القضائي بما يضمن استقلاليته وشفافيته.
3.4 آليات حماية الحقوق وتقوية القانون الدولي
بالإضافة إلى التشريع الداخلي، يجب أن تستفيد الدولة من آليات حماية الحقوق التي يضمنها القانون الدولي. إن الاستفادة من التجارب الدولية في مجال حماية الحقوق المدنيّة والإنسانية يمكن أن تساهم في تعزيز النظام القانوني الداخلي وجعله أكثر تكاملاً مع المعايير العالمية.
4. تعزيز الانتماء والمواطنة الفعلية
4.1 تحطيم الحواجز الطائفية والقبلية
يُعدّ تعزيز روح الانتماء الوطني من أهم الخطوات لنهوض دولة مدنيّة تتجاوز الخطوط العرقية والدينية. في سوريا، يمكن تحقيق ذلك من خلال برامج اجتماعية وتعليمية تُعنى بنزع الطابع الحصري للهوية الطائفية والقبلية، ومحاسبة الجهات الفاعلة التي تُساهم في تعزيز الانقسامات بدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية.
4.2 تعزيز ثقافة التعايش السلمي
يجب أن تكون ثقافة التعايش السلمي جزءاً لا يتجزأ من الهوية الوطنية. يشير البحث حول التعايش السلمي في محافظة نينوى إلى أن وضع قيم التسامح والاحترام المتبادل يساهم بشكل كبير في تعزيز الاستقرار السياسي. ويمكن تحقيق ذلك عبر مؤسسات التعليم والإعلام، بالإضافة إلى دور منظمات المجتمع المدني التي تُسهم في بناء جسور التواصل بين المكونات المختلفة.
4.3 دور الهوية الوطنية المشتركة في بناء الدولة
تعد الهوية الوطنية المشتركة الحجر الأساسي لتحقيق الاستقرار والمساواة في المجتمع. يحتاج النظام السياسي إلى تعزيز فكرة أن كل فرد، بغض النظر عن خلفيته العرقية أو الدينية، يشكل جزءاً متكاملاً من الكيان الوطني. ويستلزم هذا تبني رؤية شاملة تضع المواطنة فوق الانتماءات الفردية، كما أشارت الدراسات التي تناولت مفهوم المواطنة في العالم العربي.
4.4 جدول مقارنة لنماذج المواطنة

الجدول أعلاه يوضح الفرق بين نماذج المواطنة القائمة على الهوية الجماعية والمواطنة الفردية المتساوية مع التأكيد على نتائج كل منهما.
5. الإصلاح الأمني وإعادة هيكلة القوات المسلحة
5.1 أهمية الفصل بين السياسة والجيش
تُعاني سوريا من مشكلة استخدام الجيش كأداة لسياسات النظام القائم، حيث تساهم الولاءات الطائفية في جعله قوة سياسية بدلاً من كونه مؤسسة مهنية مستقلة. ولذلك فإن إصلاح الجهاز الأمني وإعادة هيكلة القوات المسلحة ليصبح موقفها مهنياً ونزيهاً أمر لا بد منه.
5.2 تعزيز الطابع المهني للقوات المسلحة
من الضروري أن تخضع القوات المسلحة لآليات رقابية ومحاسبية تضمن عدم انحيازها لأي فئة طائفية أو سياسية. يسهم ذلك في تعزيز الاستقرار العام وتقليل احتمال تدخل القوات في الشؤون السياسية الداخلية، مما يدعم بناء دولة مدنيّة مستقلة.
5.3 الإجراءات الإصلاحية المقترحة
يمكن تبني مجموعة من الإجراءات لضمان استقلالية الجهاز الأمني، ومن بينها:
- إعادة تدريب الكوادر العسكرية على مبادئ الحيادية والاستقلالية
- إنشاء مؤسسات رقابية مستقلة لمتابعة أداء القوات المسلحة
- ضمان شفافية عمليات التعيينات والترقيات داخل الجهاز العسكري
5.4 مخطط الإجراءات الإصلاحية الأمنية
- “تحديد الفجوات الحالية في الجهاز الأمني”
- “وضع خطة إصلاح شاملة”
- “إطلاق برامج تدريبية للكوادر”
- “تطبيق نظام رقابي مستقل”
- “مراجعة دور القوات المسلحة في الشؤون السياسية”
هذه الإجراءات الإصلاحية الأمنية المقترحة تضمن استقلالية القوات المسلحة وتعزيز مهنيتها.
6. دور المجتمع المدني والمشاركة السياسية
6.1 دعم مؤسسات المجتمع المدني
على الرغم من الانتقادات التي وُجهت للمجتمع المدني في العالم العربي بشأن دوره المحدود في دفع التحول الديمقراطي، إلا أن دوره يبقى محورياً لتحقيق التغيير البناء في سوريا. لذلك يجب دعم منظمات المجتمع المدني لتكون جسراً للتواصل بين المواطنين والحكومة وتعمل على تقديم خدمات اجتماعية وحلول للنزاعات المحلية.
6.2 تشجيع المشاركة السياسية الشاملة
تشير الدراسات إلى أن المشاركة السياسية النشطة للمواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الإثنية، تلعب دوراً حاسماً في بناء الدولة المدنيّة. إن إنشاء منصات للحوار السياسي وإشراك المواطنين في صنع القرار يساهم في كسر الحواجز التقليدية، ويعزز من ثقافة المسؤولية والمساءلة.
6.3 تجاوز نموذج الحراك الطائفي في المشاركة السياسية
على الرغم من أن النظم السياسية السابقة غالباً ما أدت إلى تعزيز اللواء الطائفي والسياسي، إلا أن الدولة المدنيّة تعتمد على مشاركة المواطنين بصورة متساوية دون الأخذ في الاعتبار خلفياتهم الطائفية. يمكن تحقيق ذلك من خلال إصلاح نظم الانتخابات وضمان توزيع المقاعد بشكل عادل يتيح لكل فئة فرصة تمثيل حقيقية في الهيئات التشريعية والتنفيذية.
6.4 رسم بياني لتوزيع أنشطة المجتمع المدني

يقدم الشكل أعلاه تصوراً بصرياً لتوزيع أنشطة المجتمع المدني في سوريا، حيث يتضح تنوع المجالات التي يمكن أن تساهم في تعزيز الدولة المدنيّة.
7. التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية
7.1 التحديات الاقتصادية والتنموية
يواجه الاقتصاد السوري تحديات كبيرة نتيجة نزاعات الماضي والانقسامات الداخلية والدمار، مما أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة نسب البطالة والفقر. وتُعتبر التنمية الاقتصادية العادلة أحد الأعمدة الأساسية لبناء دولة مدنيّة، إذ أنَّ تحقيق الاستقرار الاقتصادي يساعد على تقليل حدة الصراعات الاجتماعية وتوفير فرص متكافئة لجميع المواطنين.
7.2 القضايا الثقافية والإثنية
تشكل القيم الثقافية والتقاليد المحلية عنصراً محورياً في تشكيل الهوية الوطنية. ومع ذلك، إنَّ تنوّع هذه العناصر يتطلب مقاربة تضمن الحفاظ على التراث الثقافي لكل مجموعة مع تعزيز الهوية الوطنية المشتركة المتجاوزة للتفاوتات. يمكن تحقيق ذلك من خلال برامج ثقافية ووطنية تُبرز الثروة الثقافية المتنوعة وتعمل على دمجها في الخطاب السياسي العام.
7.3 تعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين
يمثل تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين ركيزة أساسية في الدولة المدنيّة. تشير الدراسات إلى أن ضعف حقوق المرأة وعدم تكافؤ الفرص يؤدي إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية. لذلك، يتعين وضع سياسات تستند إلى مبادئ حقوق الإنسان لضمان مشاركة المرأة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية بشكل متساوٍ مع الرجل.
7.4 الجدول الإحصائي لتوزيع العوامل الاجتماعية والاقتصادية

يوضح الجدول أعلاه التأثيرات السلبية للعوامل الاجتماعية والاقتصادية على استقرار الدولة المدنيّة، مع عرض السياسات الموصى بها للتعامل مع تلك التحديات.
8. التطبيقات المقارنة والدروس المستفادة
8.1 التجارب الإيجابية في تونس -مثالاً- وغيرها من الدول
تُظهر التجارب في دول عديدة أهمية الانتقال من نُظم الحكم القائم على الفصائل إلى نماذج أكثر شمولية تعتمد على الحوار والديمقراطية التشاركية. لقد ساهمت الإصلاحات الدستورية والقانونية في تحقيق توازن بين السلطات وتخفيف حدة الانقسامات الدينية والإثنية. ومع ذلك، تبقى التجارب – التونسية نموذجاً – يحتذى به في بعض الجوانب دون أن تكون حلاً جامعاً لكل التحديات التي تواجه سوريا.
8.2 التجارب السلبية في الحكومات القائمة على الامتيازات الكونسوسيونالية
على النقيض من التجربة التونسية، أظهرت التجارب اللبنانية أن نماذج التوافق الطائفي قد تؤدي إلى تفتيت الدولة وزيادة التوترات الاجتماعية. إذ أن توزيع السلطة على أساس الطوائف يؤدي إلى إقامة هيكل معياري يُكرس الانقسامات ويعيق التحول الديمقراطي الحقيقي. وهذه التجربة تؤكد ضرورة تبني نموذج يركز على المواطنة الفردية الشاملة بدلاً من الهوية الطائفية.
8.3 الدروس المستفادة لتطبيق النموذج السوري
من خلال المقارنة بين التجارب المختلفة، يمكن استخلاص الدروس التالية لتطبيق نموذج دولة مدنيّة متعددة الإثنيات والعقائد في سوريا:
- ضرورة تبني دستور يضمن المساواة بين جميع المواطنين، مع تعزيز حقوق الأقليات وانعكاس ذلك في السياسات العامة.
- أهمية فصل السلطات وضمان استقلالية الجهاز القضائي والأمني عن أي تأثير سياسي مباشر.
- التركيز على بناء هوية وطنية شاملة تُعزز الانتماء وتقلل من النزاعات الطائفية.
- دعم المجتمع المدني وتكثيف الحوار السياسي كمحرك أساسي للإصلاح والتحول الديمقراطي.
- ضرورة متابعة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية لضمان توزيع عادل للموارد وتحقيق التنمية المتوازنة.
8.4 مخطط المقارنة بين النماذج

يُبين المخطط أعلاه الفرق بين نموذج الدولة الطائفية والنموذج المدني الشامل من حيث توزيع السلطة وتأثير ذلك على استقرار الدولة.
9. الخلاصة والاستنتاجات
في ختام هذا البحث، يظهر جلياً أن بناء دولة مدنيّة متعددة الإثنيات والعقائد في سوريا يتطلب تغييراً جذرياً في المفاهيم الدستورية والسياسية والاجتماعية. ومن بين الاستنتاجات الرئيسية:
- ضمان المساواة الدستورية: يجب اعتماد دستور يضمن حقوق المواطنة الفردية بعيداً عن الانقسامات الطائفية والإثنية، ويعكس مبادئ العدالة والمساواة لجميع المواطنين.
- إصلاح النظام القضائي والأمني: يعد فصل السلطات واستقلالية الجهاز القضائي والأمني خطوة أساسية لإنهاء التدخل السياسي في هذه القطاعات وضمان حقوق الإنسان.
- تعزيز الهوية الوطنية المشتركة: من الضروري تبني رؤية وطنية تتجاوز الانتماءات الطائفية والقبلية وتعزز ثقافة التعايش السلمي والاحترام المتبادل.
- دعم المجتمع المدني: يلعب المجتمع المدني دوراً محورياً في تحقيق الإصلاحات والحفاظ على الحوار السياسي، ويتوجب دعمه بما يسمح له بالمشاركة الفاعلة في عملية صنع القرار.
- الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي: لا غنى للدولة المدنيّة عن أسس تنموية عادلة تضمن توزيع الموارد بشكل متوازن وتحقيق التنمية المستدامة، مما سيخفف الضغوط الاجتماعية ويعزز الاستقرار.
- التعلم من التجارب المقارنة: تُظهر التجارب الإيجابية مثل تجربتي تونس ونماذج الدول الغربية أهمية تبني آليات الحكم الشامل والتشاركي، بينما تُبرز التجارب السلبية مثل تلك في لبنان المخاطر المرتبطة بنماذج التوافق الطائفي.
تظهر هذه الركائز والأطر التحليلية مدى تعقيد عملية الانتقال إلى دولة مدنيّة شاملة في سوريا، حيث يتداخل البُعد القانوني والاقتصادي والثقافي مع الديناميكيات السياسية المتأصلة في المجتمع. إن تحقيق هذا النموذج يتطلب حواراً واسعاً بين جميع الأطراف الفاعلة، بالإضافة إلى دعم داخلي وخارجي يستند إلى مبادئ حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
الاستنتاجات الرئيسية:
- المساواة والعدالة: يجب أن يكون أساس الدولة المدنيّة هو مبدأ المساواة المتساوية لجميع المواطنين دون اعتبار للانتماءات الطائفية أو الإثنية.
- إصلاح المؤسسات الأمنية والرقابية: إعادة بناء مؤسسات الأمن والقضاء وضمان استقلاليتها يعد من أهم متطلبات تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي.
- تعزيز الثقافة الوطنية: ترويج ثقافة التعايش السلمي والانتماء الوطني المشترك عبر التعليم والإعلام يُعد من أهم الاستراتيجيات لتجاوز الانقسامات التقليدية.
- دعم المجتمع المدني والمشاركة الشاملة: يجب تمكين المجتمع المدني وتوفير آليات مشاركة سياسية حقيقية تمكن المواطنين من التعبير عن مطالبهم وتحقيق العدالة.
- النهج التنموي المتكامل: الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي المتوازن هو حجر الزاوية في بناء دولة مدنيّة قادرة على توفير حياة كريمة ومستقرة لجميع المواطنين.
من خلال هذه الدراسة، يتضح:
أنَّ الطريق إلى تحقيق دولة مدنيّة متماسكة في سوريا ليس سهلاً، بل يحتاج إلى إصلاحات جذرية ومتكاملة تشمل جميع مجالات الحياة السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية. إن هذه العملية لا تنطلق من نموذج واحد، بل تتطلب مزيجاً من التجارب المقارنة والدروس المستفادة من النماذج التي نجحت في التغلب على الانقسامات الطائفية والإثنية سواء في العالم العربي أو في خارجه.
إن التحدي الأكبر يكمن في تجاوز الموروثات التاريخية والسلوكيات الطائفية الراسخة، وعلى صانعي السياسات العمل على إعادة تعريف الهوية الوطنية لتصبح شاملاً للجميع. وهذا يتطلب مشاركة حقيقية من قبل جميع الأطراف السياسية والمجتمعية، مع ضمان دعم المجتمع الدولي للشعوب التي تسعى لتحقيق التحول الديمقراطي والعدالة الاجتماعية.
في هذا السياق، تؤكد الدراسة على ضرورة تكامل الجهود على جميع الأصعدة، بحيث تصبح الدولة مدنيّة ليس فقط نموذجاً سياسياً ولكن أيضاً تجربة مجتمعية وثقافية ترتكز على قيم الحرية والعدالة والمساواة، لتكون بذلك قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية وتحقيق التنمية المستدامة في سوريا.
أعدَّ هذه الدراسة “د. جورج توما” اعتماداً على المصادر المتاحة والتحليلات النظرية المستندة إلى أعمال مفكرين وعلماء مثل الغزالي وسلامة وكيمليك ومصادر أخرى ذات علاقة بالمحتوى، بالإضافة إلى تجارب دولية مثل تجربة تونس ودروس من التجارب اللبنانية، مما يعكس التنوع في الآراء والأفكار حول بناء دولة مدنيّة ناجحة في سياق متعدد الإثنيات والعقائد.