ليس لأحدٍ من طريق سوى “دمشق”
بالنظر إلى تعقيدات الصراع بين المصالح الإسرائيلية والتركية في سوريا، والتشابكات المتولدة، فإنه من الضروري بالنسبة لنا كسوريين أن نضع في الاعتبار مصلحتنا الوطنية، ونحدد أولوياتنا. بناءً على ذلك، سأتناول موضوعية السويداء والحرب الدائرة هناك من منظور سوري محلي بحت، على أمل أن نتمكن كسوريين من التوحد من أجل مصلحة عموم السوريون، قبل أي اعتبار آخر.
تشهد محافظة السويداء، هذه الرقعة الجغرافية ذات الحساسية الديموغرافية والجيوسياسية الفائقة في الجنوب السوري، تصعيداً خطيراً لعمليات الاقتتال البيني، محولةً خلافاتٍ اجتماعيةً وجنائيةً متجذرة إلى صراعٍ دامٍ يهدد النسيج المجتمعي بأكمله. إن هذه الديناميكية المتأزمة، التي تشمل فصائلَ من العشائر والقبائل البدوية من جهة، وأبناء مدينة السويداء من الطائفة الدرزية الكريمة من جهة أخرى، تستدعي قراءةً سياسيةً معمقة وموقفاً حازماً يدعو إلى التهدئة الفورية وتحميل السلطة الانتقالية كامل مسؤولياتها.
استراتيجية الإقتتال في الفراغ !
إن حالة الفراغ الأمني والعسكري التي أعقبت سقوط قوات النظام البائد من المنطقة، ليست مجرد نتيجة عرضية لتغير الخارطة السياسية، بل هي فراغٌ استراتيجيٌ تُرك عن عمد أو عن عجز، سمح للقوى دون الوطنية بالتمدد وإعادة تشكيل موازين القوى على أسسٍ إثنية وقبلية. هذا الفراغ، المُقترن بانتشار السلاح وتغلغل اقتصاد الحرب، قد أفرز بيئةً خصبةً لتفشي الجريمة المنظمة، وعمليات الخطف والابتزاز، التي تحولت بدورها إلى شراراتٍ لأعمال عنفٍ جماعيةٍ يصعب احتواؤها.
إن ما يحدث في السويداء يتجاوز كونه مجرد خلافاتٍ عشائريةٍ تقليدية. إنه يعكس تآكلاً ممنهجاً لمؤسسات الدولة وغياب الوجود لأيَّ برنامج وطني يستوعب ضمنه عموم الطيف السوري التعددي، وغياباً لمظلة العدالة والإنفاذ القانوني. الاتهامات المتبادلة بارتكاب انتهاكات جسيمة، من اعتداءات وإنتهاكات على أساس طائفي ومذهبي، يجب أن لا تمر مرور الكرام. هذه الجرائم، بغض النظر عن الجهة الفاعلة، تستدعي تحقيقاً شفافاً ومحاسبةً صارمةً وفقاً للقوانين الوطنية والدولية، لضمان عدم الإفلات من العقاب وردع أي محاولات لاستغلال الفوضى لتحقيق أجنداتٍ خاصة.
من يتصدر المشهد؟
على السلطة الانتقالية، التي تتصدر المشهد السياسي السوري اليوم، أن تستوعب حجم المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية والقانونية الملقاة على عاتقها. إن مهمتها لا تقتصر على إدارة الشؤون الروتينية، بل تتعداها إلى إعادة بسط هيبة الدولة، وتحقيق الأمن والاستقرار، وحماية المدنيين، وصون النسيج الاجتماعي من التمزق. إن السماح باستمرار هذا الصراع، أو التراخي في اتخاذ إجراءات حاسمة، سيعد تفريطاً بالواجب الوطني، وقد يؤدي إلى عواقب وخيمة لا تحمد عقباها، بما في ذلك إمكانية انزلاق المنطقة نحو تقسيم طائفي أو عرقي، وهو ما لا يخدم أي طرف في المدى البعيد.
من نافلة القول إن مستقبل سوربا يعتمد على قدرة جميع الفاعلين《مؤيدين أو معارضين موالين أو رافضين》على تجاوز هذه المحنة وإثبات جدارتهم في التعالي على المشاريع الضيقة إدارة الأزمات وحفظ السلم الأهلي ووحدة الجغرافيا السورية.
إن الدعوة الملحة اليوم هي للتهدئة الفورية وضبط النفس من قبل جميع الأطراف المتنازعة. يجب على شيوخ العقل بأجمعهم والحكماء من أبناء السويداء، من شيوخ العشائر ورجال الدين والوجهاء، أن يتصدروا المشهد، وأن يعملوا على إعلاء صوت العقل والحكمة، وتغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الفئوية الضيقة. كما يتوجب على السلطة الانتقالية أن تضطلع بمسؤولياتها في التدخل الفوري والفعال لفرض وقف إطلاق النار، وتأمين الممرات الإنسانية، وحماية المدنيين، والعمل على تسوية شاملة وعادلة للخلافات القائمة، تتجاوز الحلول الأمنية المؤقتة وتتجه نحو بناء أسس متينة للتعايش السلمي.
إن مستقبل السويداء، كجزء لا يتجزأ من سوريا، مرهون بقدرة جميع الفاعلين على تجاوز هذه المحنة. هل ستتمكن السلطة الانتقالية من إثبات جدارتها في إدارة الأزمات وحفظ السلم الأهلي، أم أن السويداء ستظل ساحةً للصراعات التي تقوّض أي أمل في الاستقرار والتعافي والانتقال نحو دولة وطنية ؟