مقدمة :
ظاهرة قَلبِ الوَصْم
في مختلف ثقافات العالم، كثيراً ما تتعرض بعض الجماعات أو المدن لصفات سلبية أو وصمات يطلقها عليهم الآخرون. الغريب أن هذه الجماعات لا تكتفي بالصمود أمام الوصمة، بل تقوم أحياناً بقلبها وتحويلها إلى مدعاة للفخر وهوية خاصة. يُعرف هذا الأسلوب اصطلاحاً بـ”قلب الوصم“، أي تحويل الإهانة إلى وسام. أمثلة ذلك عديدة عالمياً: الأمريكيون حولوا لقب “يانكي” الذي أطلقه البريطانيون عليهم سخرية إلى رمز وطني، وفي بريطانيا تبنّى حزب “المُحافظين” لقب توري الذي كان في الأصل شتيمة.
كلمة "Tory" مستمدة من الكلمة الأيرلندية الوسطى tóraidhe، وتعني في الأصل "شخص خارج عن القانون" أو "لص" أو "قاطع طريق".
الفكرة أن تبنّي الصفة المهينة ونزع سلاحها بالسخرية الذاتية يمنح المجتمع مناعة ضد تأثيرها النفسي. وكما يقول المثل العربي “شرُّ البليّة ما يُضحك” – أحياناً لا يبقى أمام الإنسان في وجه المصاعب إلا الفكاهة لتحويل الألم إلى ضحك.
منطقة الشرق الأوسط غنيّة بأمثلة قلب الوصم، وأبرزها ما فعله أهل مدينة حمص في سوريا. فهذه المدينة التاريخية وُصِفت عبر العصور بأنها موطن “المجاذيب أو المجانين” أو “موطن البُسطاء/السُذّج“. لكن أهل حمص لم ينزعجوا من هذه السمعة؛ على العكس تماماً جمعوا النكات التي قيلت عنهم وأصبحوا يروونها بأنفسهم، بل ويضيفون عليها طرائف جديدة[1]. هكذا تحولت “لوثة” الحماصنة إلى علامة مسجلة تمتاز بها حمص وتثير الضحك والمحبة معاً. في هذا المقال نلقي نظرة على جذور وصمة “جنون” الحماصنة في التاريخ، وكيف قلبها المجتمع الحمصي من سخرية الآخرين إلى سخرية ذاتية بناءة، ونستعرض أمثلة مشابهة في مدن أخرى، ثم نتأمل الدور الأعمق للفكاهة في تماسك المجتمعات ومواجهة الأزمات.
حمص ووصمة “المجاذيب” عبر التاريخ
على مر القرون، سجّلت كتب التراث وصفاً سلبياً لأهل حمص بسبب عوامل سياسية أو مذهبية. أشهر مثالَيْن من العصور الوسطى هما الجغرافي ياقوت الحموي والرحّالة ابن الجوزي: فقد أورد ياقوت في معجم البلدان (حوالي سنة 1225م) أن هواء حمص وتربتها فاسدان لدرجة أنهما “يفسدان العقل حتى يُضرَب بحماقتهم المثل”[2]! بل ونقل عن ابن الجوزي وصفه لأهل حمص بأنهم “بين الحمقى والمغفّلين على الإطلاق”[3]. لم تكن هذه الاتهامات بمعزل عن الانحياز؛ إذ يُرجّح المؤرخون أن ياقوت الحموي واجه فتور ترحيب من الحماصنة عند زيارته، فتحامل عليهم في كتاباته[4]. كذلك ربما لعب الخلاف المذهبي دوراً في الوصمة، فقد انحاز ياقوت لمعسكر سياسي/ديني مخالف لأهل حمص آنذاك ووصفهم بـ”التزام الضلال” في عقيدتهم.
البعض أنصفوا حمص
من جهة أخرى، ليس كل الرحّالة نظروا إلى الحماصنة بهذه النظرة السلبية. فعلى سبيل المثال، امتدح ابن جبير الأندلسي (القرن 12م) أهل حمص عند زيارته، وكتب أنهم مشهورون بـ”النجدة والتمرّس بالعدو” أي الشجاعة والمهارة في القتال[5]. هذا التناقض في الروايات يشير إلى أن سمعة “الحمق” لم تكن حقيقة موضوعية، بل صورة نمطية تبلورت لاعتبارات سياسية واجتماعية. وربما كانت حمص فعلاً متميزة بروح مرِحة أو مزاح غير مألوف فأساء البعض فهمه على أنه غباء. في كل الأحوال، وصمة الجنون لاحقت المدينة طويلاً: حتى أن حمص عُرفت تاريخياً بألقاب مثل “بلد المجاذيب” أي بلد المجانين[2]، وأصبحت قصص سذاجة الحماصنة فولكلوراً يتناقله الناس تماماً كما تُروى النكات عن أهل الصعيد في مصر أو البلجيكيين في فرنسا[1].
جذور تاريخية
الغريب أن هذه السمعة قديمة جداً ربما أبعد من روايات القرون الوسطى. هناك دراسات حديثة تشير إلى جذور أسطورية لوصمة “الجنون” الحمصية. الباحث جورج كدر في كتابه أدب النكتة… بحث في جذور النكتة الحمصية يرى أن تقليد “عيد المجانين” يوم الأربعاء في حمص يعود لحقبة ما قبل الأديان التوحيدية، حين سادت في المنطقة ديانة للخصب تقيم احتفالات صاخبة تتمثل فيها فوضى الخلق قبل نشوء النظام[6]. كان أهل حمص القدماء يقيمون طقوساً يظهرون فيها بهيئة المجانين خلال شهر آذار من كل عام ضمن مهرجانات الربيع، استعداداً لعيد الخلق الذي يُحتفل به يوم الخميس[6]. ورغم اعتناق الحمصيين للمسيحية ثم الإسلام لاحقاً، استمرّت بعض هذه الطقوس بشكل مُقنّع. فعلى سبيل المثال أشتهر في حمص خلال العصر البيزنطي قديس يُدعى سمعان الحمصي المُتباله “المجنون لأجل المسيح” الذي اتبع نهج إظهار الجنون كنوع من الزهد الروحي.
القديس سمعان الحمصي المُتباله، أو "المجنون لأجل المسيح"، هو قديس سوري عاش في القرن السادس الميلادي، واشتهر بسلوكه الذي اعتبره الناس جنوناً لأجل التكريس الروحي والخدمة. كان يعمل مع رفيقه القديس يوحنا من خلال تمثيل أدوار مجنونة في الأماكن العامة ليكشفوا عن الخطيئة ويحاولوا ردع الناس عنها، ويعتبر مثالاً للقديسين الذين تظاهروا بالجنون لأجل تحقيق أهداف روحية نبيلة.
القديس البار سمعان الحمصي المُتباله، كذلك عُرف في الفترات الإسلامية بعض المتصوفة باسم المجاذيب أو الدراويش الذين ينكرون ذواتهم تقرّباً إلى الله[7]. هذا الإرث العريق يفسّر لماذا ارتباط حمص بالجنون -أو الجدبة- أعمق من مجرد نكتة عابرة أطلقها رحّالة هنا أو هناك – إنه تقليد ثقافي متجذّر في تاريخ المدينة الروحي والاجتماعي.
من الوصمة إلى المزحة: التحول الثقافي في حمص
رغم كل ما سبق، لم يتبرأ الحماصنة من وصمة “الجنون” -وما شاكلها- التي لحقت بصورتهم، بل على العكس تماماً تبنّوها بفخر وحوّلوها إلى مصدر بهجة ووحدة. فمنذ عقود قريبة (خاصة في سبعينيات القرن العشرين)، انتشرت النكات الحديثة التي تبدأ بعبارة “مرة واحد حمصي…” وأصبحت حصرية على أهل حمص ويوم الأربعاء[8]. بدلاً من أن تغضب المدينة من هذه الحكايات الساخرة، وجد أهل حمص فيها فرصة للتميز. يؤكد الدكتور منذر الحايك (وهو مؤرخ حمصي) أن الحماصنة جمعوا النكات التي تُروى عنهم ورووها بأنفسهم وزادوا عليها حتى اشتهروا بخفة الدم واللطف بين السوريين[1]. أي أن المجتمع الحمصي امتصّ الصورة النمطية السلبية وأعاد تدويرها بشكل إيجابي عبر النكتة الشعبية.
النكتة أكسبتهم المناعة
فتية من مدينة حمص يمزحون في أحد الشوارع، في مشهد يعكس خفة ظل أهالي حمص وروح النكتة المتجذرة في ثقافتهم. إن تبنّي السخرية الذاتية حول ما يُشاع عن الحماصنة أكسب أبناء حمص مناعة نفسية ضد النظرة الدونية، بل وجعل الآخرين يُقدّرون روحهم المرحة. كيف لا وقد استطاعوا تحويل “نقيصة” مزعومة إلى نكتة محببة يتشاركون بها؟ ليس غريباً أن تُلقب حمص اليوم بـ”عاصمة الضحك” في سوريا[9]. الكثير من النكات الحمصية تُروى على لسان الحمّصيين أنفسهم في جلساتهم، وكأنهم يقولون:
“نحن أولى بالسخرية من أنفسنا قبل أن يفعل غيرنا. هذه القدرة على الضحك على الذات تتطلب درجة عالية من الثقة وروح التصالح”.
وقد أصبحت النكتة الحمصية “ وسيلة مأمونة لنقد الواقع” في سوريا، يستخدمها أهل حمص وغيرهم لتمرير انتقادات اجتماعية وسياسية بشكل ظريف بعيدا عن الرقابة[10].
الحكواتي يروي..
ويُروى في التراث الشعبي العديد من القصص عن حيل الحماصنة وطرائفهم التي تتظاهر بالجنون وتنقلب انتصاراً لهم. من أشهر تلك الحكايات حكاية تيمورلنك المغولي (تيمورلنك = تيمور الأعرج) حين وصل بجيوشه إلى أبواب حمص بعد أن دمّر مدن الشام واحدة تلو الأخرى في القرن الرابع عشر.
تقول القصة إن أهل حمص استقبلوا الغازي بحفاوة غريبة يوم الأربعاء: فتحوا أبواب المدينة عن آخرها، وخرجوا له بملابسهم مقلوبة، وعلقوا القباقيب (الأحذية الخشبية) على صدورهم كالقلادات، وراحوا يقرعون الطبول ويهللون بشكل مجنون[11]. اعتقد تيمورلنك وجنوده أن المدينة مسكونة بالمجانين أو الأرواح الشريرة، فآثروا الانسحاب وعدم دخولها تفادياً لـ"لعنة الجنون"!
هكذا نجت حمص بذكاء ساخر فيما دُمّرت مدن أخرى بحد السيف. وانتشرت بين أهل الشام وقتها عبارة تتهكم على تيمورلنك: “جَدَعها أهل حمص على تيمورلنك يوم الأربعاء فعفا عنهم”[11] (أي أصاب الحماصنة تيمور بالجدَع؛ والجدَع باللهجة تعني اللوثة أو الجنون). ومنذ ذلك الحين ارتبط يوم الأربعاء وسمعة “الجنون الحمصي” معاً، فبات الأربعاء يُعرف شعبياً بأنه يوم المجانين في حمص. وحتى اليوم، قد يمزح بعض السوريين صبيحة كل أربعاء بقولهم “اليوم يوم الأربعا، الله يستر من الحماصنة!“. بالطبع هي دعابة ودّية تصحبها الابتسامة، فالكل يعرف أن الحماصنة أذكى من أن تُؤخذ عنهم هذه السمعة حرفياً.
حكايات أخرى
إلى جانب قصة تيمورلنك، تُروى حكايات شعبية أخرى تعزز الفخر الضمني لأهل حمص بـ”جنونهم الظريف“. منها أسطورة محلية أن ماء نهر العاصي الذي يمر في حمص له تأثير عجيب؛ إذ يُقال مازحين إنه يجعل شاربه “ينجَنُّ” مؤقتاً. هذه المزحة ربما اشتقّها الحماصنة قديماً لتفسير لماذا تصرفوا بتهوّر أمام تيمورلنك (قالوا شربنا من ماء العاصي ففعلنا ما فعلنا!). كما يتفاخر الحمصيون بقصة صد المغول تلك كعلامة دهاء، فيقولون: جنوننا أنقذ مدينتنا. وغدت أعياد الربيع التقليدية في حمص تُسمى شعبياً خميس الحلاوة وخميس المشايخ وخميس القلعة، تسبقها أربعاء القطط وأربعاء المجانين وغيرها، في تقويم فولكلوري فريد للمدينة[12][13].
مدن أخرى قلبت وصمتها
ظاهرة قلب الوصمة عبر الدعابة ليست حكراً على حمص وحدها، بل نجد لها نظائر في مدن ومجتمعات مختلفة بالشرق الأوسط. فيما يلي بعض الأمثلة البارزة:
- الإسكندرية (مصر): عُرفت مدينة الإسكندرية بسلسلة من النوادر الشعبية حول شخصية خرافية تُدعى “أمنا الغولة“. هذه الغولة كانت تُستخدم قديماً لإخافة الأطفال، لكن السكندريين حوّلوها إلى مادة للتنكيت. تنتشر نكات يدّعي فيها أهل الإسكندرية مصادقة الغولة أو خداعها، في صورة من قلب الخرافة المخيفة إلى مفارقة مضحكة. الهدف الضمني هو الإيحاء بأن “سكندري ما بيخافش“، أي أنهم قلبوا وصمة الجُبن إلى جرأة ممزوجة بخفة دم. وهكذا أصبحت الغولة التي ترمز للخوف مجرد بطلة لنكتة يضحكون منها وعليها.
- البصرة (جنوب العراق): يتميز أهل البصرة بروح دعابة تلقائية وساخرة تجاه أنفسهم، حتى وُصفت النكت الشعبية هناك بأنها “سلاح الجنوبيين” للتعايش مع النظرة الدونية القديمة التي كانت بعض المناطق الأخرى تنظر بها إلى سكان الجنوب. فالبغداديون مثلاً درجوا تاريخياً على إطلاق النكات عن “ابن الجنوب” وتصويره بالسذاجة أو البطء، فما كان من الجنوبيين (وأهل البصرة خصوصاً) إلا أن تبنّوا هذه الصورة بشيء من المزاح. انتشرت في البصرة نكات يُطلق فيها البصري على نفسه لقب “شروگي” (وهي كلمة عامية قدحية بمعنى رجل الجنوب الريفي) ضمن سياق فكاهي. هذا الفكاهة ذات الطابع المحلي قلبت اللقب المهين إلى رمز محبّب بين البصريين أنفسهم، يفخرون به كدليل على طيبة قلبهم وبساطتهم. واليوم باتت النكات على لهجة أهل الجنوب وعاداتهم تُروى بلسانهم هم قبل غيرهم، تعبيراً عن الاعتزاز بالهوية الجنوبية البسيطة في مواجهة أي نظرة فوقية.
- لا تقتصر الأمثلة على الإسكندرية والبصرة؛ فلدينا أيضاً نكات “الصعايدة” في مصر التي حوّلها أهل الصعيد إلى مزاح ذاتي.
- ونكات عن أهل سوسة في تونس.
- وطرائف عن أهل نَجْد في الجزيرة العربية وغيرها[14].
“القاسم المشترك هو أن النكتة تصبح آلية اجتماعية لعكس اتجاه السخرية: بدل أن تكون أداة للتنمر على فئة ما، تتحول إلى وسام تستعرض به تلك الفئة روحها المرحة وتفرض احترامها بطريقة غير مباشرة”.
دور الفكاهة في التماسك والصمود
يذهب علماء الأنثروبولوجيا إلى أن الفكاهة ليست مجرد لهو أو ترفيه عابر، بل هي جزء أساسي من النسيج الثقافي الذي يحفظ تماسك الجماعة. الضحك المتبادل يخلق لغة مشتركة تعبر الحدود الاجتماعية، وقد لوحظ أن النكات تقوم بوظيفة شبيهة بالطقوس في تعزيز الثقة وحل التوترات داخل المجتمع[15]. فالقبيلة أو المدينة التي تضحك معاً تبقى متماسكة، لأن الضحك الجماعي يرسل رسالة ضمنية: نحن نفهم بعضنا، ونتقاسم الهم نفسه. لذا ليس غريباً أن يُستخدم الضحك في الثقافات التقليدية أثناء الأزمات لتخفيف الاحتقان بين أفراد الجماعة. وقد اعتُبر الفكاهة أحد أقدم أدوات البشرية للحفاظ على الروابط الاجتماعية[15].
“تُظهر دراسات علم النفس الاجتماعي أن السخرية من الذات – حين لا تزيد عن حدّها – يمكن أن تكون آلية دفاعية صحية. فالنظر إلى عيوبنا وضغوطنا بمنظار فكاهي يساعدنا على تقبلها والتعامل معها دون انهزام”.
إن باحثين وجدوا أن من يمارسون الفكاهة الذاتية بإيجابية يتمتعون بمستويات أعلى من المرونة النفسية وقدرة التكيّف[16]. أي أن الضحك على أنفسنا (ضمن المعقول) قد يقوينا من الداخل بدل أن يضعفنا.
كذلك تلعب النكتة دوراً مهماً كمتنفس في مواجهة الشدائد والأزمات الكبرى. في التاريخ الحديث، نجد أمثلة ساطعة على تحويل الشعوب الكارثة إلى نكتة لتخفيف وقعها. المصريون – على سبيل المثال – يُعرفون بأنهم “ابن نكتة“، وقد استخدموا الفكاهة كسلاح لمواجهة أزمات اقتصادية وسياسية طاحنة. تشير تقارير صحفية إلى أن النكتة كانت وسيلة المصري العادي للتغلب على المصاعب بالقفز فوقها وتحويلها إلى مادة للتندر[17]. حتى في أحلك الأوقات، لم يغِب الضحك. إبان نكسة 1967 العسكرية، ورغم الشعور الجمعي بالانكسار، راجت نكات لاذعة تغلّف الألم بالسخرية، بهدف رفع المعنويات في وجه الهزيمة[18].
النكات وعبد الناصر
يُروى أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر نفسه اضطر أن يطلب علناً من الشعب التوقف عن إطلاق النكات بعد 1967 لأن كثافتها كانت لا تُحتمل بالنسبة للنظام[19][20]. لقد أدرك أن النكتة سلاح شعبي بتّار قد يكون أخطر من مئة خطاب احتجاج. ومن الأمثلة الشهيرة آنذاك نكتة انتشرت عن طوابير شراء الأرز في مصر صوّرت طول طابور المنتظرين بشكل هزلي[21]. مثل هذه النكات كانت مرآة صادقة تعكس معاناة الناس أكثر من أي تقرير رسمي، لذا خافت السلطة من تأثيرها الثوري[22].
“خلاصة القول، في أوقات الأزمات يمتلك الضحك قدرة عجيبة على تطبيع القلق؛ فهو يُفرغ الاحتقان ويعطي الناس شعوراً بأنهم يسيطرون رمزياً على الواقع الصعب عبر السخرية منه. وكما عبر أحد الباحثين: النكتة خطاب ثوري مبطّن تنتشر بسلاسة وتغيّر الصورة الذهنية في العقل الجمعي تجاه الأوضاع والشخصيات[22]“.
وبالعودة إلى حالة حمص، لعبت الفكاهة دور الصمام الآمن خلال المحن. خلال سنوات الثورة السورية التي عصفت بحمص عام2011، وجعلتها من أكثر المدن تضرراً، حرص الحماصنة على إبقاء جذوة الضحك مشتعلة في قلوبهم رغم الدمار. انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع ساخرة من واقع الحصار والقصف، يعلق فيها شباب حمصيّون بلهجتهم المرحة على صعوبة الظروف. كانوا يصنعون النكتة من قلب الألم كنوع من الصمود المعنوي. وليس أدلّ على ذلك من استمرار تقليد “الأربعاء الحمصي” حتى في أحلك الأيام، حيث يتبادل أهل حمص النكات كل أربعاء كتحدٍ رمزيّ للواقع المرير. لقد تحولت ضحكاتهم إلى سلاح بقاء حافظ على إنسانيتهم ووحدتهم في مواجهة مأساة الحرب.

خاتمة: مرونة الهوية وروح الدعابة
تُعلّمنا قصة حمص دروساً بليغة حول مرونة المجتمعات وقدرتها على إعادة اختراع صورتها وهويتها باستخدام أبسط الأدوات وأعمقها تأثيراً: الفكاهة. ما بدأ كوصمة سلبية تحاول النيل من كرامة أهل حمص، انتهى كعنوان فخر يضعونه على صدورهم. لقد قلب الحماصنة الطاولة على المستهزئين بهم؛ فبدل أن ينطووا على شعور بالنقص أو يحاولوا نفي التهمة، احتضنوا الوصمة وحوّلوها إلى مزحة مشتركة عززت من تلاحمهم الداخلي وزادتهم حباً في نظر الآخرين. بهذا الأسلوب الذكي، انتقل لقب “المجانين” من سبة إلى صفة لطيفة بل ومحببة، وصارت حمص تعرف بإيجابية كمدينة الضحك والظُرف.
الضحك ثقافة
إن قدرة أي جماعة على الضحك من نفسها مؤشر صحة ثقافية ونفسية. فهي تدل على ثقة بالنفس وعلى قدر من الحرية يسمح بتقبل النقد الذاتي دون انهيار. وحين تمتلك الجماعة هذه القدرة، تصبح أقل تعرضاً للأذى من سخرية الآخرين. لقد أثبتت التجربة أن النكتة أقوى من الوصمة؛ فالنكتة حين تنبع من أصحاب “العيب” المفترض تفرغه من سَمّه تماماً.
“في النهاية، خرجت حمص من قرون المزاح الثقيل هذه بهوية خاصة بها: هوية المؤمن بأن الضحك ينبع من الألم ويتغلب عليه. وهذه الهوية المبتسمة في وجه كل من ينعتها بالجنون هي ما يميز الحماصنة تاريخياً ومعيشياً حتى يومنا هذا”.
المصادر: تُظهر أمثلة واستشهادات متعددة في ثنايا المقال توّثق المعلومات الواردة، منها كتابات ياقوت الحموي [2] ورحلة ابن جبير [5]، وأبحاث حديثة حول جذور النكتة الحمصية [6]، بالإضافة لمقالات صحفية وثّقت فخر الحماصنة بنكاتهم [23] ودور الفكاهة في المجتمع [17][15]. هذه المصادر وغيرها تؤكد حقيقة قلب الوصم التي صنعها أهل حمص، وتبرز كيف يمكن لحس الدعابة أن يصبح درعاً للهوية وبلسماً للجراح الجمعية.
________________________________________
[1] [2] [4] [8] لماذا لُقّبت حمص “ببلد المجاديب”؟ – رصيف22
[3] [10] [11] [23] قياس كعبة بداهة مصالح عيد الحماصنة وحكاية يوم الأربعاء؟ | حوار المنطق الحيوي لتحقيق إرادة الحياة: الحرية..
[5] ص208 – كتاب رحلة ابن جبير ط دار الهلال – مدينة حمص – المكتبة الشاملة
[6] [7] [9] [14] “أدب النكتة” ونكات أهل حمص:: حرب الفكاهة وسلاح النقد في النكة الحمصيّة | Qantara.de
[12] [13] Texts | Sweet Homs
[15] [16] Crack a Joke, Build a Bond: The Science Behind Social Humor | by Mark Calee-Empathy…Power! | H.E.A.L. M.E. | Medium
[17] [18] [19] [20] [21] [22] زمن المآسي الضاحكة… مصريون على طريق “شر البلية” | اندبندنت عربية