من “النصر المطلق” إلى التضحية الضرورية
في قاعات القرار المغلقة بتل أبيب، كانت صيحات “النصر المطلق” الإسرائيلية ترنّ عالياً، مؤكدة العزم على سحق حماس واستعادة الأسرى بالقوة. لكن الواقع الميداني والسياسي سرعان ما اصطدم بتلك الشعارات. فبعد أشهر من القتال الدامي في قطاع غزة، اضطرت القيادة الإسرائيلية، تحت وطأة ظروف لا تُحتمل، للموافقة على اتفاق وقف إطلاق نار طويل الأمد بوساطة دولية. هذا التحول الدرامي لم يكن إعلاناً للانتصار، بل كان إقراراً استراتيجياً بفشل الحملة العسكرية في تحقيق أهدافها، ووصول الحرب إلى مرحلة الإخفاق العملياتي الذي بات يهدد الاستقرار الداخلي والأمن الاستراتيجي لإسرائيل على جبهتها الشمالية الأكثر اشتعالاً.
“إن القصة الحقيقية وراء هذا القرار ليست قصة انتصار عسكري، بل قصة إكراه فرضته ثلاثة محاور ضاغطة ومتقاطعة على صناع القرار. هذه المحاور هي: العاصفة الداخلية المتمثلة في صرخة الأسرى وتآكل شرعية الحكم، والجمود العسكري الذي استنزف الاقتصاد والجنود، وأخيراً، الضرورة الاستراتيجية الإقليمية التي ألزمت إسرائيل بالتفرغ لخطر الشمال. هذه هي السطور التي تكشف كيف أُرغمت إسرائيل على التضحية بأهدافها المعلنة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه”.
صرخة الأسرى: السيف المسلّط على رقبة الحكومة
عائلات الأسرى.. قوة لا تُقهر في الشارع الإسرائيلي
لم يكن الضغط الداخلي عاملاً هامشياً، بل كان القوة المحركة الأشد حدة في فرض قرار وقف إطلاق النار. لقد تحولت عائلات الأسرى الإسرائيليين من مجموعات إنسانية تطالب بذويها، إلى قوة سياسية فاعلة ومخترقة للخطاب الرسمي. نجحت هذه العائلات في اختراق الرقابة العسكرية والدعوة الصريحة لوقف الحرب، محذرة من الخطر المحدق على حياة أبنائها بفعل استمرار القتال. وبذلك، أصبحت ورقة الأسرى بمثابة دليل حي على الفشل العملياتي في استعادتهم بالقوة، وتحولت من قضية إنسانية إلى أداة ابتزاز سياسي ضد الحكومة.
تآكل الثقة وتلويح نتنياهو بانتخابات مبكرة
لقد كان الشارع الإسرائيلي يغلي. تشير التقديرات إلى أن حوالي 70% من الإسرائيليين لا يثقون في رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ما يعكس عزلة سياسية لم يسبق لها مثيل. هذا الغليان أجبر القيادة على دفع ثمن باهظ للمحافظة على الاستقرار الداخلي المؤقت، حتى لو تعارض مع أيديولوجية الائتلاف الحاكم المتشددة. حاول نتنياهو أن يصبغ قبوله للاتفاق بصبغة “النصر“، زاعماً أن حماس وافقت لأن “السيف موضوع على رقبتها“، لكن الدافع الحقيقي كان براغماتياً: فوسائل إعلام عبرية أشارت إلى سعيه لاستثمار الهدنة لتقديم موعد الانتخابات العامة، ما يثبت أن دافع البقاء السياسي كان له الأولوية على المصلحة العسكرية طويلة الأجل. بل إن أهالي الأسرى اتهموا نتنياهو صراحة بمحاولة نسف الاتفاق ووضع العراقيل أمامه، ما سلّط الضوء على تضارب مصالحه بين إرضاء اليمين المتشدد وضمان بقائه.
حدود القوة: جمود عسكري واستنزاف لا يُحتمل
تكلفة الحرب: نزيف اقتصادي وبشري غير مسبوق
لم يعد بالإمكان تجاهل الثمن الباهظ للحرب. فلقد بلغت التكلفة الإجمالية على الاقتصاد الإسرائيلي نحو 73 مليار دولار، ما يمثل خسائر فادحة عجلت بقرار وقف العمليات العسكرية المفتوحة. في المقابل، تكبّد القطاع الفلسطيني خسائر مادية قُدرت بـ 70 مليار دولار مع تدمير نحو 90% من مبانيه. وعلى الصعيد البشري، لم تكن الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي أقل وطأة، حيث أكدت تقارير إسرائيلية حجم الاستنزاف غير المسبوق في عدد القتلى والجرحى. هذا النزيف المتواصل، في مقابل الفشل الذريع في تحقيق الأهداف الاستراتيجية المعلنة، أيقن صناع القرار بأن إسرائيل باتت عالقة في وحل حرب استنزاف طويلة تهدد قدرتها على الاستعداد للتهديدات الأكثر خطورة.
صمود المقاومة.. التحدي الذي لم يكسره السلاح التقليدي
أقرّ لواء إسرائيلي متقاعد بأن إسرائيل “لم تحقق أي هدف استراتيجي” في غزة بعد شهور من القتال، وهو اعتراف صريح بحدود القوة التقليدية. فالتحليلات العسكرية أكدت أن حماس لا تزال تمثل “قوة حرب عصابات فعّالة” وغير قابلة للهزيمة السريعة. بقيت شبكة الأنفاق الضخمة سليمة إلى حد كبير، ما مكّن المقاومة من تنفيذ عمليات كر وفر وتفخيخ للمباني واستهداف للمركبات المدرعة. هذه التكتيكات فرضت على الجيش الإسرائيلي حرباً بطيئة ومكلفة للغاية، ما جعل هدف “تفكيك البنية التحتية للمقاومة بالكامل” أمراً غير واقعي في المدى المنظور، وبات وقف إطلاق النار ضرورة لتصحيح المسار.
الكارثة الإنسانية.. ضربة قاسية للشرعية الدولية
لم يكن بالإمكان فصل الجمود العسكري عن الكارثة الإنسانية. فعمليات عسكرية أسفرت عن مقتل وإصابة عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وتهجير قرابة مليوني شخص، تسببت في تآكل الشرعية الدولية لاستمرار الحرب. والأدهى كان سياسة الحصار التي منعت إدخال المساعدات لأكثر من تسعة أسابيع في إحدى الفترات، ما أدى إلى نفاد مخزون الطحين والمواد الغذائية. هذا الوضع الكارثي، الذي وُصف بأنه “معاناة غير مسبوقة“، زاد الضغط على حلفاء إسرائيل الرئيسيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، لفرض آلية لوقف القتال وتأمين المساعدات.
الإملاءات الدولية: دبلوماسية الأزمة والرافعة الأمريكية
خطة ترامب: عندما تحوّلت أمريكا من “حامٍ” إلى “ضامن للاستقرار”
لم يكن قرار تل أبيب بالقبول بالاتفاق نابعاً من إرادة منفردة، بل كان نتيجة ضغط أمريكي مباشر. وقد اعترف مسؤول أمني إسرائيلي كبير بأن الاتفاق تم التوصل إليه تحت “ضغط ترامب“. هذا يؤكد أن الولايات المتحدة تحولت من مجرد حامٍ لإسرائيل إلى ضامن للاستقرار يفرض إطاراً تفاوضياً لا يمكن رفضه. شكلت مبادرة ترامب التي طرحت في إيلول 2025 الإطار الذي وافقت عليه إسرائيل، وتضمنت إنهاءً فورياً للحرب وتبادلاً ضخماً للأسرى شمل الإفراج عن 250 أسيراً فلسطينياً محكوماً بالسجن المؤبد.
كانت العلامة الأبرز على هذا الإكراه هي وصول قوات أمريكية للإشراف على تطبيق الاتفاق وإنشاء “مركز تنسيق مدني عسكري” لتسهيل تدفق المساعدات. هذا الإشراف المباشر يمثل قيداً جديداً على حرية العمل الإسرائيلية، واعترافاً ضمنياً من واشنطن بعدم الثقة في قدرة أو رغبة إسرائيل في إدارة المرحلة الانتقالية، خاصة في ملف المساعدات.
الوساطة الإقليمية وشرعية عالمية تطالب بالوقف
لعبت كل من قطر ومصر دوراً محورياً كـ عمود فقري دبلوماسي لإنجاح الاتفاق. فرض هذا الضغط المشترك، بالشراكة مع الولايات المتحدة، نموذجاً تفاوضياً اعتمد على الواقعية بدلاً من الأهداف الإسرائيلية المثالية، مما أدى إلى توازن قوى جديد. ورغم استخدام الولايات المتحدة للفيتو في أوقات سابقة، تزايد الضغط الدولي العام نتيجة الكارثة الإنسانية. ورحبت دول عدة بالخطة، ما خلق غطاءً دولياً واسعاً للضغط على إسرائيل، مع تزايد المطالب العالمية بتطبيق قرار الوقف الفوري لإطلاق النار “بحذافيره“.
التحدي الاستراتيجي: التفرغ لجبهة الشمال المشتعلة
غزة كـ “ورطة” استراتيجية يجب الخروج منها
كانت الحاجة المُلحة إلى التفرغ للجبهة الشمالية هي الدافع الأعمق والأكثر استراتيجية لقبول نتنياهو بوقف القتال. فبعد أشهر من حرب استنزاف مرهقة في الجنوب، تراجعت قدرة إسرائيل على “الصمود الوطني“، وتفاقمت المخاوف من الانجرار إلى حرب متعددة الجبهات. وعليه، اعتُبر وقف إطلاق النار المطول في غزة بمثابة تضحية استراتيجية ضرورية لـ “تحرير” الجيش من جبهة واحدة، ما يزيد من مرونته العملياتية في الجبهة الأكثر خطورة المتمثلة في حزب الله في لبنان.
ضغوط عالمية لاحتواء “الحرب الكبرى”
يواجه نتنياهو ضغطاً عالمياً مكثفاً لمنع توسع الصراع الإقليمي إلى حرب شاملة قد تجتاح المنطقة بأكملها. يُعتبر وقف إطلاق النار في غزة بمثابة سيناريو بديل يسمح بالتفرغ للسعي نحو تسوية دبلوماسية في الشمال بوساطة دولية. هذا يشير إلى أن المجتمع الدولي يمارس ضغطاً هائلاً على نتنياهو لتجنب عملية عسكرية واسعة في لبنان.
وفي محاولة لـ “تعويض” النقص في الإنجاز العسكري الذي لم يتحقق في غزة، استغل نتنياهو فترة الهدنة في الجنوب لتنفيذ ضربات استباقية انتقائية على أهداف عسكرية في جنوب لبنان والعمق السوري، في محاولة لإعادة صياغة قواعد الاشتباك استراتيجياً في الشمال دون الانزلاق إلى حرب برية واسعة. وهكذا، تحولت الهدنة في غزة إلى آلية استراتيجية لتحقيق “التفرغ للتهديد الأكبر”، مع بقاء حرية العمل الإسرائيلية مقيدة بالضغط الدولي الهادف إلى احتواء أي تصعيد شامل.

تفاصيل الإكراه: هيكلية الاتفاق وتحديات “اليوم التالي”
تنازلات كبيرة وقوة ورقة الأسرى
الاتفاق، الذي تم التوصل إليه في يناير 2025، قائم على مقترح من ثلاث مراحل. شهدت المرحلة الأولى تنازلاً إسرائيلياً كبيراً، ما عكس قوة ورقة الأسرى لدى المقاومة. فقد تضمنت المرحلة الأولى الإفراج عن 33 أسيراً إسرائيلياً مقابل إطلاق إسرائيل سراح ما يصل إلى 2000 أسير فلسطيني، والأهم أن التبادل شمل الإفراج عن 250 أسيراً محكوماً بالسجن المؤبد.
كما نص الاتفاق على شروط عملياتية وإنسانية ملزمة، تضمنت انسحاباً تدريجياً للجنود الإسرائيليين من المناطق المأهولة في غزة، وإدخال مئات الشاحنات من المساعدات والوقود يومياً، مع دور محوري لمركز التنسيق الأمريكي العسكري المدني لضمان الالتزام بهذه الشروط.
السيطرة الأمنية وتحدي إعادة الإعمار
تتجه الأنظار الآن نحو تحديات “اليوم التالي”، حيث تصر إسرائيل على السيطرة الأمنية وعدم التخلي عن “البُعد الأمني” رغم الانسحاب من المناطق المأهولة. هذا يعني أن الهدنة لا تعني إنهاء السيطرة، بل إعادة تعريف شكل الاحتلال ليكون أمنياً/إشرافياً يتجنب تكلفة الإدارة المدنية المباشرة.
ويهدف هذا الواقع الجديد إلى إبعاد حماس عن الحكم المنفرد، ما يتوافق مع الرؤية الأمريكية والإسرائيلية لمحاولة فرض حل سياسي تفرضه نتائج الحرب. ومع حجم الدمار الهائل، تشير التقديرات إلى أن غزة ستحتاج إلى عقود للعودة إلى مستويات النمو السابقة. إن إغراق غزة في عملية طويلة من الاستقرار المدني والإعمار يخدم الهدف الاستراتيجي المتمثل في “تجميد” جبهة غزة كقضية عسكرية ملحة، ما يتيح لإسرائيل التفرغ للجبهات الأخرى.
خاتمة: الحرية لا تُهدى.. إنما تُكتسب بالتضحيات
كان قرار وقف القتال في غزة تجسيداً لـ “هدنة الإكراه”، ناتجاً عن فشل تل أبيب في تحقيق أهدافها بالقوة العسكرية. لقد أثبتت هذه الهدنة أن القوة العسكرية، مهما بلغت، لا تستطيع أن تكسر إرادة شعب يدافع عن حقه وحريته. فصمود المقاومة في شبكة الأنفاق، وتحوّل ورقة الأسرى إلى أداة ابتزاز سياسي، وضرورة التفرغ للتهديد الأكبر على الجبهة الشمالية، كلها عوامل أرغمت الطرف الأقوى عسكرياً على القبول بشروط لم يكن ليتخيلها في بداية حربه.
رسالة موجهة للقارئ:
إن الدروس المستفادة من هذه الهدنة عميقة، وتتجاوز حدود الجغرافيا. إنها تذكرة بأن الحرية لا تُهدى، وإنما تُكتسب بالتضحيات. لقد نجح الشعب الفلسطيني، بصموده وتضحياته، في تحويل ورقة الأسرى إلى سلاح سياسي فعال، وفي إجبار قوة الاحتلال على التنازل. إن هذا الإنجاز يؤكد أن الاستنزاف الاستراتيجي وصمود الجبهة الداخلية هما المفتاح لتقييد يد المحتل. الهدنة قيدت الاستقلالية الإسرائيلية ومهّدت لمسار جديد في المنطقة، لكنها رسّخت أيضاً أن مقاومة الاحتلال هي السبيل الوحيد نحو تحقيق الحقوق الوطنية، حتى لو كانت التكلفة باهظة ومؤلمة.