استهلال:
من المؤكد أن كل عصر ينتج رجالاً يتناسبون مع ظروفه وتحدياته. فالأحداث والتطورات التاريخية تشكلها شخصيات قيادية مؤثرة قادرة على مواجهة التحديات وصنع المستقبل.
وهكذا تتغير وتتطور المجتمعات مع مرور الزمن، وبالتالي تتغير أيضاً القيم والمعايير التي تحكم سلوك الأفراد والمجتمعات.
أمثلة توضيحية:
العصور القديمة: شهدت ظهور قادة عسكريين وفلاسفة أثروا على مجرى التاريخ.
العصور الوسطى: برز فيها رجال الدين والنبلاء الذين شكلوا الهيكل الاجتماعي والسياسي.
العصر الحديث: عصر الثورات الصناعية والتكنولوجيا، وفيه ظهر رجال أعمال وعلماء أثروا على حياة البشرية.
من اقتباسات أقدم رؤساء سوريا بعد الاستقلال 1946:
الرئيس شكري القوتلي:
"أنا خادم للشعب السوري، وليس سيداً عليه."
الرئيس هاشم الأتاسي:
"الرئاسة تكليف وليست تشريفاً، إنها واجب لخدمة الوطن."
وقد خصَّ الكاتب نبيل زين العابدين الحريري “منصة مآلات” بمقال عنوانه:
صفحات ناصعة وصور جميلة لقامات سورية الحبيبة ..
الصورة الأولى:
الدكتور “ناظم القدسي” -رحمه الله- عندما كان رئيساً للوزراء يخرج من مكتبه في منطقة المهاجرين بدمشق بعد انتهاء الدوام ، إلى بيته سيراً على الأقدام بدون أي مرافقة أمنية.
وكان يمر على مسجد صغير في منطقة بوابة الصالحية فيصلي فيه العصر ثم يتابع سيره …
ويروي أحد سائقي شركة أرسان للسفريات في ذلك الزمان هذه الواقعة فيقول :
اُستدعيت من قبل القصر الجمهوري في دمشـق ففوجئت بالرئيس ناظم القدسـي يخرج من القصر ليودعُ امرأة وشاباً يريدان السفر إلى حلب، وما لبثا أن ركبا في المقعد الأمامي إلى جانبي، وكان هناك ثلاثة ركاب آخرون من عامة الناس يشغلون المقعد الخلفي، وأثناء الرحلة سألت الشاب عن علاقته بالرئيس فأجاب بتواضع:
“إنه أبي وتلك التي بجواري هي أمي….!”
كان الدكتور ناظم القدسي -رحمه الله- يحمل درجة الدكتوراه من جامعة جنيف في سويسرا في الحقوق الدولية ، وشغل العديد من المناصب الرسمية بما فيها رئاسة البرلمان ورئاسة الوزراء، وبعد انفراط الوحدة مع مصر عام 1961، تولى منصب رئاسة الجمهورية السورية.
ومن مآثر هذه القامة الوطنية السورية، أنه في عام 1949، عندما قام حسني الزعيم بانقلابه العسكري سنة 1949، طلب من الدكتور ناظم القدسي تشكيل الوزارة فرفض، فأمر باعتقاله وزجه في السجن ثم أطلق سراحه ووضعه تحت الإقامة الجبرية في بيته في حلب. وبعد ذلك بقي القدسي ينتقده بلا مهادنة، ويعارض انقلاب الزعيم اللاشرعي “علناً”. كما أنه عارض حكم أديب الشيشكلي العسكري فزجَّه هو الآخر في السجن أيضاً.
الصورة الثانية:
الدكتور معروف الدواليبي رحمه الله ، قامة شامخة أخرى من قامات حلب الوطنية، يحمل شهادة الدكتوراه في الحقوق من جامعة السوربون في باريس ، عمل مدرساً للقانون في جامعة دمشق، ثم دخل معترك الحياة السياسية وانتخب نائبا في البرلمان عن مدينته حلب. وبعد ذلك أصبح رئيساً للبرلمان، كما تقلد منصب رئيس الوزراء مرتين. وقد تولى وزارتي الدفاع والخارجية أكثر من مرة، وهو الذي حمل باليد وثيقة الاستقلال بعد استلامها من وزير الخارجية الفرنسي فاستقل الباخرة من ميناء مرسيليا ليسلمها إلى الرئيس شكري القوتلي رحمه الله في دمشق، وكان يقيم في بيت متواضع في حي المزرعة الذي كان آنذاك منطقة بساتين نائية اشتراه من حر ِّ ماله في أواخر ستينيات القرن الماضي.
ويتذكر ابنه هشام فيقول:
أذكر أنني كنت أقف مرة في شرفة بيتنا ، وكانت إحدى جاراتنا تقف في شرفة بيتها تتحدث مع جارة أخرى وتقول لها: انظري إلى رئيس الوزراء ينتظر الباص عند الموقف!
الصورة الثالثة:
الزعيم سعد الله الجابري رحمه الله ، كان قامة من قامات مدينة حلب الشهباء الوطنية ، لم يتوقف رحمه الله عن النضال من أجل الاستقلال ، وأمضى فترات طويلة من عمره في السجون بسبب نضاله ، وعندما تولى رئاسة الوزراء أثناء الانتداب الفرنسي تصرف باستقلالية تامة عن الفرنسيين فأوقفوه وزجه في السجن..
ويحكي الشاعر عمر أبو ريشة رحمه الله ، أنه في الذكرى الأولى لوفاة الجابري أراد أن يرى أين وكيف كان يعيش الرجل ، فاستأذن أقاربه لزيارة بيته في حلب، وعندما شاهد غرفة نومه والزجاج المكسور في نافذتها وعليه طبق من الكرتون يغطي نصف النافذة سأل مرافقه في تلك الزيارة من أهل الجابري مستغربا:
أكان رئيس وزراء سورية ينام هنا؟
فأجابوه :
نعم ، فهو لم يقبض قرشا واحدا من الدولة ، وكان يوزع راتبه على المستخدمين….
وكان الجابري رحمه الله قد أعاد إلى خزينة الدولة مبلغ 6 آلاف ليرة زادت عن مصروف الوفد السوري الذي ترأسه إلى اجتماع تأسيس الجامعة العربية الذي أقيم في الإسكندرية، رغم أنه مرض أثناء تلك المهمة وهو على رأس عمله ودخل مستشفى المواساة في الإسكندرية. وقد خرج مديناً بما يزيد عن 12 ألف ليرة سورية للمستشفى، ولم يسمح لنفسه أن تمتد يده إلى المال الذي فاض عن حاجة الوفد……!
وختاماً
تلك كانت كانت كوكبة من نجوم سورية ازدانت بها سماؤها المتلألئة بالنجوم طوال عهود طويلة ، وهي غيض من فيض قائمة طويلة من رجالاتها الوطنيين، الأحرار ، وكذلك كانت حال سماء الوطن برمته في مدن سورية الأخرى ، غصت بأمثال تلك النجوم ، سطروا بماء من ذهب تاريخ نضالنا الوطني ضد المحتل ،،،
تشير حياتهم المتواضعة ونزاهتهم وعفة أنفسهم وآبائهم، أنه لا يهم أحدهم ولو كان رئيس للجمهورية أن يرسل زوجته وابنه إلى حلب بسيارة الأجرة ، ولا يهم الآخر وهو رئيس للوزراء أن ينتظر الباص للذهاب إلى مقر عمله ! فكل ما كان يهمهم هو المحافظة على مال الشعب وأرواح المواطنين، وغادروا الوطن الذي أحبوه وأخلصوا له أيما إخلاص بكل هدوء، لكي لا تراق قطرة دم واحدة من دماء أبناء الوطن….
ولو أردنا تعدادهم في كل مدينة من المدن السورية لضاقت بهم الصفحات ..
كثيرة تلك القامات السورية التي سطرت أروع الأمثلة في الصدق والأمانة والإخلاص والتواضع، وما نراه في أفعال بعض رؤساء الغرب من التواضع، ما هو إلا صورة باهتة عن تلك الشخصيات السورية التي كانت رمزاً وطنياً لقيم الإخلاص والتواضع، خاصة في باكورة إعادة بناء سورية بعد نيلها الاستقلال عام 1946 من استعمار العثمانيين المزمن وإرهاصات الاستعمار الفرنسي من بعده.