توطئة
تعد الرياضيات، بتجريدها ومَنْطقِها الصارم، اللغة الكونية التي تسعى لفك شفرة الحقائق الكمية والعلاقات المجردة، وهو ما دفع الفلاسفة والعلماء، منذ أفلاطون، إلى اعتبارها مدخلاً ضرورياً لكل معرفة عميقة. إن الولوج إلى هذا الحقل يتطلب موهبة جينية فائقة، وقدرة على الهيام في بحر التجريد، فضلاً عن زاد علمي متنوع. وفي تاريخ بلاد الشام الحديث، برزت قامة علمية فذة جسدت هذا المزيج النادر من العبقرية والنزاهة، هو الدكتور عبد الغني الطنطاوي، الذي لم يكن مجرد أستاذ، بل كان مؤسس التعليم الجامعي الحديث في تخصصه، ورائداً رسم ملامح الصرامة الأكاديمية للأجيال اللاحقة.
الجزء الأول: السند العائلي والبوادر الجينية للعبقرية (دمشق 1919-1938م)
النشأة في رحاب دمشق القديمة والتكوين الفكري المتكامل
وُلد عبد الغني بن مصطفى الطنطاوي في دمشق فجر يوم السبت الموافق 11 يناير 1919م. (1) تركت وفاة والده وهو في السادسة من عمره أثراً عميقاً، إذ نشأ في كنف ورعاية أخيه الأكبر، العالم والأديب الشهير، الشيخ علي الطنطاوي. شكلت هذه الرعاية بيئة فكرية خصبة ساهمت في صقل مواهبه المبكرة.

تلقى الطنطاوي تعليمه الأولي في المدرسة السُّلطانية، المعروفة باسم مكتب عنبر، وهي إحدى الصروح التعليمية العريقة في الشام. وهناك، لم يقتصر تحصيله على العلوم الحديثة، بل نال حظاً وافراً من علوم الشريعة واللغة العربية على أيدي كبار علماء دمشق، وكان من زملائه المقربين فيها الأديب شكري فيصل وصلاح الدين المنجد.
هذا التكوين المبكر وفر أساساً منطقياً ولغوياً متيناً لعبقريته الرياضية اللاحقة. فالتفوق في علوم اللغة والمنطق، التي كانت ركيزة التعليم في مكتب عنبر، هو في الواقع أساس ضروري لفهم التجريد الرياضي المتقدم، خاصةً في مجال “التحليل الرياضي” الذي يعتمد على البراهين اللغوية الصارمة والتعريفات الدقيقة. لاحقاً، أكمل الطنطاوي دراسته الثانوية في مدرسة التجهيز الأولى (جودت الهاشمي).
كانت الخطوة الحاسمة في مسيرته هي التخصص في الرياضيات بالجامعة السورية (جامعة دمشق حالياً). أظهر نبوغاً استثنائياً منذ البداية، وتخرج في عام 1938م محرزاً المرتبة الأولى على دفعته.(1) أشار الشيخ علي الطنطاوي إلى نبوغ أخيه بقوله:
«كان أخي عبد الغني نابغاً من صغره في الرياضيات، يَدهَشُ منه كلُّ من علَّمه من الأساتذة ويُفاخر به».
هذا التفوق المنهجي واللغوي المزدوج أهله ليصبح من أوائل المرشحين للابتعاث لإكمال دراساته العليا في الخارج.
الجزء الثاني: رحلة البحث عن القمة وسط الاضطراب (1940-1952م)
باريس على فوهة بركان: الحلم الذي أوقفته الحرب
بعد تخرجه بمرتبة الشرف، أقامت وزارة المعارف السورية مسابقة لابتعاث طالبين، واحد في الرياضيات والآخر في العلوم. وفي دلالة واضحة على تفوقه المطلق، حصد الطنطاوي المركز الأول في القسمين معاً، مما مهد ابتعاثه إلى باريس عام 1940م لنيل شهادة الدكتوراه.
التحق الطنطاوي بجامعة السوربون، العاصمة الفكرية للرياضيات الأوروبية في ذلك الوقت، ودرس فيها لمدة سنتين، مستفيداً من جِلة أساتذتها. إلا أن الظروف العالمية تدخلت لتوقف مسيرته، إذ حال نشوب الحرب العالمية الثانية دون إكماله لدراسته والعودة بشهادة الدكتوراه.1
كان هذا التحول الإجباري من مركز العلوم الأوروبي (باريس) إلى العودة إلى المنطقة نقطة مفصلية في تكوينه. فعلى الرغم من أن الحرب كانت سبباً في تعطيل حلمه، فإن اضطراره لاحقاً للتحول إلى مركز إقليمي آخر (القاهرة) جعله دمج مدرستين فكرتين مختلفتين في تحصيله العلمي: الصرامة النظرية التي اكتسبها من السوربون، والمنهج العلمي المتطور الذي كان ينمو في مصر. هذا المزيج النادر من الخلفيات عزز استقلاليته الفكرية ومنهجه الخاص الذي طبقه عند تأسيسه للتعليم الجامعي في دمشق.
القاهرة محطة الحصاد: رائد التحليل الرياضي
لم يثنِ الطنطاوي عن حلمه، فابتُعث مرة أخرى إلى مصر عام 1946م لإكمال دراساته العليا. وفي كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً)، تكللت جهوده بالنجاح بنيله شهادتي الماجستير والدكتوراه في التحليل الرياضي عام 1952م.1 وبهذا الإنجاز، سُجل اسمه في التاريخ ليكون أول من يحمل شهادة الدكتوراه في الرياضيات في بلاد الشام.1
جاء تخصصه في مجال التحليل الرياضي ليعكس طموحاً أكاديمياً متقدماً. فالتحليل الرياضي (Real Analysis) ليس مجرد استمرار لحساب التفاضل والتكامل، بل هو حجر الزاوية الذي يرسخ أسس المفاهيم التي كانت تُعالج بشكل غير صارم في الرياضيات الكلاسيكية. لقد كان اختيار هذا الفرع يعني أن هدف الطنطاوي كان بناء “ثقافة البرهان الرياضي” و “الصرامة المنطقية” في سوريا، وليس مجرد نقل تطبيقات بسيطة. وقد تمحورت رسالتاه حول موضوعات دقيقة هي: متسلسلات كثيرات الحدود (الماجستير) و تمثيل الدوال المنتظمة بواسطة سلاسل كثيرات الحدود (الدكتوراه)، مما يدل على عمق انخراطه في الرياضيات البحتة.
تَلخَص المراحل الأكاديمية للطنطاوي مسيرة بحث دؤوب عن المعرفة، استجابت للظروف العالمية دون أن تتخلى عن هدفها:
المراحل الاكاديمية والبعثات العلمية للدكتور الطنطاوي
المرحلة/الجهة | التاريخ التقريبي | الغاية والتخصص | ملاحظات بارزة |
الجامعة السورية (دمشق) | 1934-1938 | تخصص الرياضيات | تخرج بالمرتبة الأولى، مؤهلاً للابتعاث الفوري. |
جامعة السوربون (باريس) | 1940-1942 | الدكتوراه في الرياضيات | البعثة الأولى، توقفت بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية. |
جامعة فؤاد الأول (القاهرة) | 1946-1952 | الماجستير والدكتوراه في التحليل الرياضي | حقق الريادة بالحصول على أول دكتوراه في الرياضيات في بلاد الشام.(1) |
الجزء الثالث: المؤسس والقدوة: العهد الدمشقي والتأثير البيداغوجي (1952-1978م)
بناء كرسي الرياضيات والأسلوب التربوي المبتكر
بعد عودته إلى دمشق، درّس الدكتور عبد الغني الطنطاوي في جامعتها (جامعة دمشق)، ليكون أول أستاذ جامعي يحمل شهادة الدكتوراه في هذا التخصص. لم يكن حضوره مجرد إضافة عددية لأعضاء هيئة التدريس، بل كان بمثابة حجر الزاوية في بناء منهجية حديثة لتدريس الرياضيات.
لقد ترك الطنطاوي بصمة لا تُمحى على الأسلوب التربوي. فقد وصفه تلميذه أستاذ الرياضيات عبد المجيد الحجي بأنه كان “نموذجاً للمدرِّس المبدع”، سواء في المرحلة الثانوية أو الجامعية. وتظهر عمق هذه البصمة في حقيقة أن “أكثر مشاهير أساتذة الرياضيات في سوريا الحبيبة من طلابه”.
هذا يشير إلى أن تأثيره كان مضاعفاً؛ فلم يكن مجرد ناقل للمعرفة، بل كان مصنعاً للكفاءات، مؤسساً بذلك مدرسة فكرية ومنهجية استمرت لعهود. يمكن اعتبار الفترة التي أعقبت عودته نقطة انطلاق لـ “عصر ذهبي” نسبياً لتخصص الرياضيات في الجامعات السورية، مدفوعاً بصرامته العلمية الفريدة.
ريادة التعريب العميق للرياضيات
إحدى أبرز سمات منهج الطنطاوي كانت ريادته في تعريب العلوم، لكن تعريبه كان منهجياً وعميقاً، تجاوز الترجمة الحرفية ليؤسس لغة علمية متكاملة. فقد كان يستخدم “اللغة العربية للترميز” (Notation) في محاضراته وكتاباته.
في الخمسينيات، كانت الجامعات العربية حديثة التأسيس تميل إلى استخدام المصطلحات الأجنبية (الفرنسية تحديداً) في التعليم العالي. إن اختيار الطنطاوي للترميز العربي كان محاولة واعية لإثبات كفاءة اللغة العربية في التعامل مع أعلى مستويات التجريد الرياضي. هذا الإجراء لم يقلل الحاجز النفسي واللغوي أمام الطلاب فحسب، بل أسس لهوية علمية عربية متكاملة. هذا المنهج يفسر لماذا كانت دروسه “ممتعة” ويحرص الطلاب على تسجيلها على أشرطة ونقلها إلى دفاترهم. لأنه نجح في جعل الرموز الرياضية مرتبطة بلغتهم الأم، مما يعمق فهمهم بدلاً من الاكتفاء بالنقل اللغوي.
الجزء الرابع: الإسهام في المكتبة العربية للرياضيات
كتاب “مبادئ التحليل الرياضي”: إرساء البنية المعاصرة
لم يكن الدكتور الطنطاوي معلماً استثنائياً فحسب، بل كان أيضاً مؤلفاً رائداً. ويعد كتابه مبادئ التحليل الرياضي، الذي صدر في جزأين عن مطبوعات جامعة دمشق عام 1963م، إسهاماً مؤسساً في المكتبة العلمية العربية.1 وقد جاء الجزء الأول في 132 صفحة والجزء الثاني في 588 صفحة، مما يدل على الشمولية والعمق.
تتجلى الأهمية المنهجية لهذا العمل في كونه “أول كتاب بالعربية في جامعة دمشق يعالج هذا الموضوع المهم” (التحليل الرياضي).(2) لقد تناول الكتاب بدقة بناء حقل الأعداد الحقيقية وخواص الترتيب، وهي الأسس التي لا يقوم التحليل الحديث إلا عليها.(3)
ما يميز هذا الكتاب هو رؤيته المستقبلية والسباقة. فقد أشار الطنطاوي في كتابه إلى مفاهيم متقدمة في التحليل والطوبولوجيا، حيث تطرق إلى “طوبولوجيا الفضاء الحقيقي نوني الأبعاد”.(2) إن إدراج الطوبولوجيا، التي تهتم بدراسة البنى الرياضية والجبرية (2)، في منهج التحليل الرياضي عام 1963م، يدل على أن الطنطاوي كان يسعى لنقل طلابه من التفكير الحسابي إلى التفكير البنيوي والتجريدي، مواكباً لأحدث التطورات العالمية في الرياضيات البحتة. هذا السعي للتأصيل الرياضي على أحدث الأسس، دون انتظار لترجمة الكتب الغربية، يؤكد دوره كـ “مؤسس للمنهج“.
لقد كانت رسالتا الماجستير والدكتوراه، على الرغم من عدم طباعتهما، عموداً فقرياً لمعرفته التخصصية، وقد استخدم الطنطاوي هذه المعرفة العميقة لخدمة الأجيال، مؤكداً أن الإرث العلمي لا يقاس فقط بعدد المطبوعات، بل بعمق الصرامة المؤسسة في المناهج.
النتاج العلمي الأساسي للدكتور عبد الغني الطنطاوي ودوره التأسيسي
العمل |
النوع | سنة الإصدار/المناقشة | الأهمية والأثر المنهجي |
ملاحظات النشر |
مبادئ التحليل الرياضي (جزأين) |
كتاب جامعي مؤسس | 1963م | أول مرجع بالعربية في التحليل الرياضي بجامعة دمشق، يشتمل على مفاهيم طوبولوجية متقدمة.(2) | مطبوع. |
متسلسلات كثيرات الحدود |
رسالة ماجستير | قبل 1952م | عمل تخصصي في التحليل الكلاسيكي. |
لم تُطبَع. |
تمثيل الدّوال المنتظمة بواسطة سلاسل كثيرات الحدود | رسالة دكتوراه |
1952م |
العمل التأسيسي الذي أهله للريادة. |
لم تُطبَع. |
الجزء الخامس: الفيلسوف الرياضي: سيرة العزلة والنزاهة
مصباح قوي في غرفة مغلقة: الزهد وعبادة العلم
إن شخصية الدكتور الطنطاوي لا تُفصل عن إنجازه العلمي. لقد عُرف بصفات أخلاقية سامية، أهمها حدة الذكاء التي اقترنت بالزهد وشدة التواضع وإنكار الذات. كان ميالاً إلى إيثار العُزلة، وله كرم استثنائي، حيث كان ينفق كل ما يكسِبه على من حوله.
كانت وصف أخيه الشيخ علي الطنطاوي لسلوكه وصفاً بليغاً ودقيقاً:
«كان في باريس مثلاً مضروباً للطالب المسلم، وفي التدريس نموذجاً للمدرِّس المبدع… وعبد الغني مثلي مُنزوٍ معتزل، بل هو أشدُّ مني عُزلةً وانزواء، فكأنه مصباح قوي في غرفة مغلقة، نوره شديد ولكن لا يجاوز جُدرانها».
هذه العزلة لم تكن مجرد سمة شخصية، بل يمكن تفسيرها كحماية ضرورية للصرامة الأكاديمية. إن الانزواء والبعد عن الأضواء غالباً ما يرتبط بضرورة التفرغ للبحث والتفكير العميق اللذين تتطلبهما الرياضيات البحتة. وفي حالة الطنطاوي، كانت عزلته حاجزاً يحميه من الانخراط في المجاملات الاجتماعية والضغوط السياسية التي قد تهدد النزاهة العلمية. إن تركيز نوره في غرفته المغلقة يعني أن تأثيره كان مكثفاً وموجهاً بشكل أساسي نحو طلابه ومؤلفاته، وليس مشتتاً في الحياة العامة. لقد كان هذا التكريس المطلق هو الثمن الذي دفعه ليصبح معياراً للنزاهة العلمية.
حكاية الهجرة: ثمن النزاهة في بيئة المحسوبية
تتجلى قيمة الطنطاوي الأخلاقية في حادثة شهيرة، كشفت عن التزامه المطلق بالحق. وصفه العلامة المربي عبد الرحمن الباني بأنه “من أذكياء الدنيا، مع استقامة ونزاهة تامَّة، وثبات على الحقِّ”.1 لكن ذروة النزاهة ظهرت عندما “استُدرج في دمشق لتنجيح بعض أبناء الذوات، فأبى بشدَّة، وآثر الهجرة”.(1)
هذا القرار المصيري ليس مجرد تفصيل أخلاقي، بل هو نقطة تحول مأساوية في تاريخ المؤسسة التعليمية السورية. إن رحيل الطنطاوي، وهو أول دكتور في الرياضيات في بلاد الشام ومؤسس منهجها الحديث، بسبب رفضه لخرق معايير الجدارة وتفشّي المحسوبية، يمثل خسارة فادحة ونزفاً للعقول المؤسسة. لقد أكدت حادثة التنجيح القسري التوتر القائم بين بناء مؤسسات تقوم على الجدارة (وهو ما مثله الطنطاوي) وبين التدخلات الاجتماعية التي تفرض المحسوبية على حساب المعايير العلمية.
فُسّرت الهجرة كشكل من أشكال الاحتجاج السلبي على تدهور المعايير الأكاديمية. لقد قدم الطنطاوي دليلاً مادياً على أن تكلفة الحفاظ على النزاهة العلمية المطلقة في تلك البيئة كانت الخروج منها، مفضلاً ثباته على الحق على بقائه في وطنه.
الجزء السادس: العقود الأخيرة والتأثير العابر للحدود (1960-2005م)
المربي العابر للحدود
بعد هجرته، لم يتوقف عطاء الدكتور الطنطاوي. فقد اتسعت رقعة تأثيره لتشمل مؤسسات تعليمية في مناطق عربية أخرى كانت في طور التأسيس الأكاديمي. فقد أُعير إلى الجامعة الليبية بين عامي 1960 و 1963 م، ثم قدِم إلى المملكة العربية السعودية أستاذاً في جامعة أم القرى بمكة المكرمة بين عامي 1978 و 1987م. وانتقل بعدها إلى مدينة جدة، حيث بقي يدرس حتى أحيل على التقاعد سنة 1996م.
أسهمت هذه التنقلات في نقل خبرته التأسيسية ومنهجه الصارم في التحليل الرياضي إلى مؤسسات تعليم عالٍ ناشئة في العالم العربي. ففي الفترة التي تلت الستينيات والسبعينيات، كانت العديد من الجامعات العربية تعتمد بشدة على الأكاديميين الرواد لإنشاء المناهج وقيادة الأقسام. وجود الطنطاوي، بكفاءته الأوروبية/المصرية وصرامته الأخلاقية، كعنصر استقرار أكاديمي، ضمن أن هذه الجامعات بدأت بأسس منهجية قوية ومحايدة أخلاقياً. لقد رمزت مسيرته المهنية إلى حركة “العقول المؤسسة” التي أسهمت في بناء الهياكل الأكاديمية العربية على نطاق أوسع، مما يمنحه مكانة تتجاوز النطاق الوطني السوري لتصبح إقليمية.
الوفاة والذكرى العطرة
توفي الدكتور عبد الغني الطنطاوي في مدينة جدة مساء يوم 3 جمادى الآخرة 1426هـ، الموافق 9 يوليو 2005م، ودفن في مقبرة الرويس بجدة.
على الرغم من غياب مبادرات رسمية تحمل اسمه أو جوائز كبرى موثقة (4) (وهو ما يتسق مع شخصيته الزاهدة والمُنزَوية)، فإن الاعتراف الحقيقي بعبقريته يأتي من الجيل الذي درّسه. فقد ظل ذكره “عطراً على لسان زملائه في الجامعة“. هذا يؤكد أن إرثه مترسخ في البنية الأكاديمية الداخلية التي بناها، وليس في المظاهر الاحتفالية الرسمية. لقد كان الطنطاوي نموذجاً لـ “الأب الروحي” للعلم، الذي يجد مكانته الدائمة في الكتب المنهجية التي ألفها، وفي عقول الطلاب الذين أصبحوا رواداً من بعده.
إضافة إلى إتقانه للغة الفرنسية والإنكليزية والألمانية فضلاً عن العربية، ظل الطنطاوي مثالاً للمثقف الموسوعي والرياضي الملتزم حتى آخر أيامه.
الخلاصة: المؤسس المهاجر وقيمة الجدارة العلمية
يمثل الدكتور عبد الغني الطنطاوي حالة فريدة في تاريخ التعليم العالي العربي. لقد كان رياضياً رائداً، كسر حاجز الريادة بحصوله على أول دكتوراه في الرياضيات في بلاد الشام عام 1952م، ومؤسساً لمنهج التحليل الرياضي في جامعة دمشق، من خلال كتابه الرائد واستخدامه للترميز العربي.
إن الإسهام الأهم للطنطاوي لا يكمن فقط في الإنجاز العلمي (الذي تجلى في كتابه السباق الذي قدم الطوبولوجيا في سياق التحليل)، بل يكمن في ربط هذا الإنجاز بالجدارة الأخلاقية المطلقة. إن قصته، التي تضمنت الهجرة المؤثرة بسبب رفضه المساومة على المعايير الأكاديمية، تظل درساً صارماً حول التوتر بين بناء مؤسسات تقوم على الكفاءة ومواجهة ضغوط المحسوبية.
لقد كان الدكتور الطنطاوي “مصباحاً قوياً” أنار الطريق لجيل كامل من علماء الرياضيات، مؤكداً أن الاستقامة الفكرية والنزاهة الأخلاقية هما أساس أي بناء علمي مستدام، حتى لو كان ثمن الحفاظ عليهما هو الابتعاد عن الأضواء أو الهجرة عن الوطن. لقد ترك خلفه إرثاً لا يُنسى في الصرامة المنهجية، والمثابرة الأكاديمية، والالتزام بقيمة الحق.
ختاماً، يمكن تلخيص مسيرة عبد الغني الطنطاوي في هذا المبدأ الذي يجب أن يكون نبراساً: "ليست العبقرية مجرد حدة ذكاء تكتشف الحقائق، بل هي الصرامة الأخلاقية التي ترفض المساومة عليها. فلتكن طموحات الأجيال العلمية مشفوعة بنزاهة المؤسسين، فالعلم بلا أخلاق كالنور المحبوس، لا يتجاوز صاحبه".(1)
Works cited
- مبدع من بلدي..الدكتور عبد الغني الطنطاوي – صحيفة الثورة, accessed October 10, 2025, https://thawra.sy/?p=671240
- تصدير, accessed October 10, 2025, https://www.syriamath.net/files/lectures/2017/10/943524041.pdf
- الأعداد الحقيقية (حقل-) – الموسوعة العربية, accessed October 10, 2025, https://mail.arab-ency.com.sy/details/141
- جائزة الدولة للتفوق | المجلس الاعلى للثقافة, accessed October 10, 2025, http://scc.gov.eg/stateawards/%D8%AC%D8%A7%D8%A6%D8%B2%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AA%D9%81%D9%88%D9%82/
عبد الغني الطنطاوي نابغة علم الرياضيات – رابطة أدباء الشام, accessed October 10, 2025, http://www.odabasham.net/%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AC%D9%85/135718-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%86%D8%B7%D8%A7%D9%88%D9%8A-%D9%86%D8%A7%D8%A8%D8%BA%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%B6%D9%8A%D8%A7%D8%AA