لقاء موسكو الذي كسر الجمود وأعاد الأسئلة القديمة
في خطوةٍ مفاجئة حملت أكثر من دلالة، التقى الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو الأسبوع الماضي. اللقاء، الذي تم في أجواء حذرة ومغلقة، بدا كأنه محاولة لإعادة وصل ما انقطع بين المعارضة السورية وروسيا، الدولة التي لعبت الدور الأبرز في ترجيح كفة النظام الأسدي منذ العام 2015.
ورغم الطابع الدبلوماسي المعلن للزيارة، إلا أنها أثارت عاصفة من الجدل داخل الأوساط السورية، بين من رآها خطوة “واقعية” نحو تسويةٍ شاملة، ومن اعتبرها خطيئة سياسية مبكرة تهدد بفقدان ما تبقى من الرصيد الأخلاقي للثورة.
روسيا: من حليف النظام إلى صانع خرائط الدم
لا يمكن فهم خلفيات اللقاء دون العودة إلى الدور الذي لعبته موسكو في المشهد السوري خلال العقد الماضي.
فمنذ تدخلها العسكري المباشر في سبتمبر 2015، تحوّلت روسيا إلى الفاعل الأهم في معادلة الصراع، إذ وفّرت الغطاء الجوي للنظام في معاركه ضد المعارضة، وأشرفت على اتفاقات خفض التصعيد، التي انتهت معظمها بمآسٍ إنسانية طالت المدنيين.
تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية وثّقت مئات الغارات الروسية على منشآت مدنية، بينها مستشفيات ومدارس وأسواق، ما جعل كثيرين يرون أن موسكو لم تكن “ضامناً للحل“، بل طرفاً أصيلاً في الحرب.
ورغم ذلك، ظلت روسيا تطرح نفسها كوسيط دولي من خلال مسارات” أستانا” و “سوتشي”، التي أعادت صياغة الأزمة السورية بمعايير أمنية أكثر منها سياسية.
تصريحات الشرع: لغة دبلوماسية… أم تبرير للانحناء؟
قال الرئيس المؤقت أحمد الشرع في المؤتمر الصحفي المشترك مع بوتين:
“سوريا الجديدة يجب أن تُبنى على قاعدة الانفتاح على الجميع، ومنهم روسيا التي لا يمكن تجاهل تأثيرها في الحل السياسي المستقبلي.”
وأضاف:
“الشعب السوري يحتاج اليوم إلى الاستقرار أكثر من أي شيء آخر. حان الوقت لتجاوز الماضي، والنظر إلى المستقبل بعقلانية.”
غير أن هذه العبارات، التي حملت نَفَساً تصالحياً واضحاً، أثارت حفيظة قطاعات واسعة من السوريين، الذين رأوا فيها تنازلاً عن دماء الضحايا وتغاضياً عن جرائم موثقة ارتكبتها القوات الروسية خلال السنوات الماضية.
وصف محللون هذا الخطاب بأنه تحوّل خطير في أولويات الحكومة المؤقتة، التي يفترض أن تكون صوت الثورة وممثل إرادة الشعب، لا صوت المصالح المؤقتة أو الإملاءات الخارجية.
مصافحة بوتين… صك براءة غير معلن
لم يكن المشهد الأخير في الزيارة مجرد بروتوكولٍ عابر. فالمصافحة العلنية بين الشرع وبوتين أمام عدسات الإعلام، والتي تناقلتها القنوات الروسية على نطاق واسع، بدت وكأنها منحت موسكو صك براءة سياسياً وأخلاقياً عن ماضيها في سوريا.
وصف أحد المراقبين هذا المشهد قائلاً:
“كأنَّ موسكو خرجت من اللقاء بوسام دبلوماسي جديد، لا باعتذار عن الماضي، بل باعترافٍ من المعارضة بشرعية دورها.”

الداخل السوري يغلي: الغضب الشعبي والمخاوف الوطنية
في الداخل، كان وقع اللقاء مختلفاً حيث تنامت حالة الغضب بين السوريين، خصوصاً في المناطق التي ما زالت تعاني من ضعف الخدمات والفساد والفوضى الإدارية.
رأى كثيرون أن الحكومة المؤقتة فقدت بوصلتها الثورية، وأنها بدأت تميل إلى تغوّل الفصائل المسلحة المتشددة التي استولت على مواقع سيادية، في حين همّشت الكفاءات المدنية والضباط المنشقين.
ويحذر مراقبون من أن إعادة إنتاج نموذج المحسوبية والولاءات الفصائلية سيقود بالضرورة إلى انفجار شعبي جديد، وربما إلى انقسام داخلي يصعب احتواؤه.
الشرعية قبل الشرعية الدستورية
يرى الخبراء أن أخطر ما في زيارة الشرع لموسكو هو تجاوزه البُعد الدستوري والسيادي، إذ لا تملك حكومته المؤقتة حتى الآن تفويضاً شعبياً أو مؤسساتياً لعقد اتفاقيات دولية بهذا الحجم.
ويخشى مراقبون أن يؤدي هذا المسار إلى تآكل الثقة الدولية في المعارضة السورية، التي طالما قدّمت نفسها بوصفها ممثلة لقيم الديمقراطية والعدالة.
خاتمة: الصبر السوري ليس بلا نهاية
بعد قرابة أحد عشر شهراً على تشكيل الحكومة المؤقتة، بدأت تتصاعد في الشارع السوري أصوات تطالب بالمحاسبة والشفافية، وتُحذر من تحوّل التجربة الثورية إلى نسخة مشوهة من النظام الذي أسقطه السوريون بثمن باهظ.
فالشعب الذي قدّم مليون شهيد وملايين المهجّرين لن يقبل أن تُختزل ثورته في اتفاقات شكلية وصور مصافحة سياسية.
إنّ الشرعية الحقيقية تُستمد من الناس، لا من الخارج، وإنّ صبر السوريين على الفوضى والفساد لن يدوم طويلاً.
فالتاريخ علّمهم أن الثورة لا تموت حين تُخدع، بل حين يصمت أهلها عن الانحراف.
" إنها ليست دعوة إلى العنف أو الغضب، بل تذكير بأن الديمقراطية لا تُمنح، بل تُنتزع... وأنّ الحرية لا تُصان إلا بصوتٍ لا يخاف من قول الحقيقة".