عبير النحاس أيقونة سورية معاصرة
تاريخ الميلاد: 10 نيسان 1971
المنشورات: أصدرت مجموعتها القصصية الأولى «تلميذة الرومان» عن دار الفكر في دمشق، ثم تتابع عطاؤها الأدبي حتى اليوم.
السيناريو: كتبت عدداً من سيناريوهات الأفلام القصيرة، منها الفيلم الصامت «بذرة الجريمة» الذي نال الجائزة الذهبية في مهرجان “أنفوما تركس” العالمي، إلى جانب «لا تفسد الباقي»، و«الخطر في الألعاب الإلكترونية»، وفيلم قصير بالتعاون مع المخرج العراقي “سردار زنكنة“.
هي زوجة شهيد و أمٌّ شهيد، امرأة واجهت الفقد بالصبر، وحوّلت الألم إلى طاقة للحياة والإبداع. ترى في هجرة السوريين إلى بلاد اللجوء بداية جديدة، يجب أن تُثمر جيلاً منفتحاً فكرياً وأخلاقياً وإنسانياً. من غربتها صنعت من الأدب رسالة ومن التجربة مدرسة.
مدخل الحوار
كتبت عبير النحاس في السياسة كما في الأدب، فجال قلمها بين القصة والمقال، بين الحلم والواقع. وكان هذا الحوار معها مزيجاً بين الضربين، يلتقي فيه الوجدان بالفكر.
سؤال 1: بصفتك أديبة ومكلومة، كيف استقبلتِ نبأ سقوط الطاغية وتحرير سوريا؟
عبير النحاس:
حين بلغني النبأ، خيّم الصمت على اللغة، كأن الكلمات ارتدت عني. بدا الحدث أكبر من أن يُختصر في صيحة أو في مقال. شعرت أنه استعادة لروحٍ نزفت معنا سنواتٍ طويلة.
أنا التي ودّعت الشهداء قطعةً من قلبي، لم أستقبله بفرحٍ صاخب، بل بخشوعٍ يشبه صلاة الغائب. فالحرية لا تُستعاد بسقوط طاغيةٍ فحسب، بل بإعادة بناء ما دمّره الخوف في النفوس والعلاقات. الحرية أن يعود السوري إلى بيته بلا خوف، وأن تفتح المدارس أبوابها بلا شعاراتٍ كاذبة، وأن يجد اليتيم حضناً لا سياجاً.
في تلك اللحظة، تماهى الأدب بالسياسة؛ لم تعد القصة مجرّد سرد، بل لبنة في بناء ذاكرة وطنية جديدة. استقبلت الخبر بدموعٍ هادئة وامتنانٍ للشهداء، وعهدٍ أن تبقى الكلمة سلاحاً لا يصدأ.
سؤال 2: حدّثينا عن مسيرتك العلمية والأدبية.
عبير النحاس:
رحلتي كانت متشابكة بين التعليم والأدب. درست في معهد إعداد المدرسين، وتعلّمت كيف أجعل من التعليم تجربة حياة. عملت مدرّسة للتربية الفنية في سوريا، حيث أدركت أن لكلّ طفلٍ خياله الخاص، وأن الفنّ سبيلٌ للتعبير والنجاة.
لاحقاً، انتقلت إلى العمل الصحفي والإعلامي؛ فكنت محرّرة في وكالة الأناضول للأنباء، وكتبت في مجلة Gerçek Hayat Dergisi منذ عام 2016 حتى اليوم، كما نشرت في يني شفق العربي ومواقع عربية ودولية متعدّدة. منحتني هذه التجارب أفقاً واسعاً وصوتاً يعبّر عن هموم الناس ووجع الوطن.
ألفت أكثر من خمسةٍ وثلاثين عملاً بين قصة ورواية ومسرحية وكتب أطفال، منها «ثورة الدمى»، «رحلة الجوارب الخمسة»، و*«صداقة بطعم الشوكولاتة»*. أعمالي موجّهة لتربية جيلٍ يعي معنى الصمود والأمل.
كما شاركت في تأسيس معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي، وأشغل اليوم رئاسة فرع حمص لاتحاد الكتّاب العرب. أعتبر كلّ ما أكتبه رسالة لإحياء القيم الإنسانية والهوية الثقافية، لا مجرّد نتاجٍ أدبي.
سؤال 3: كيف تنظرين إلى المثقفين السوريين والعرب خلال ثورات الربيع العربي؟
عبير النحاس:
حين أستعيد مشاهد الربيع العربي، أرى تصنيفات غرامشي للمثقفين وقد سارت بيننا لحماً ودماً. في سوريا، لم يكن المثقف منظّراً يكتب من خلف مكتبه، بل عاش التجربة في الشارع، في المعتقل، وفي المنفى.
رأيت المثقف العضوي يلتصق بالناس ويدوّن آلامهم حتى يُغَيَّب. ورأيت المثقف التقليدي يحتمي بماضيه، يخاف النزول من برجه. أمّا المثقف الديمقراطي فكان الأقرب إلى وجعي؛ حاول أن يكون صوت الناس، لكنه مزّقته الأسئلة: كيف تكتب للحرية وأنت محاصر بالدم؟ وكيف تزرع الأمل وسط الخراب؟
وظهر المثقف الذاتي الذي لجأ إلى ذاته، كتب نصوصاً جميلة لكنها بدت هروباً من مواجهة الحقيقة.
نحن اليوم بحاجة إلى مثقفٍ جديد، عابرٍ للأنماط، يحمل الكلمة كجسرٍ بين الألم والفعل، لا كمنبرٍ للوعظ. حين كتبت من غربتي، شعرت أن دوري يتجاوز النصّ إلى بناء هويةٍ لأطفال الغربة، أن أجعل من اللغة وطناً ومن الكلمة مقاومة.
المثقف الحقيقي هو من يشهد ويقاوم في آنٍ معاً، لا من يسعى للنجاة الفردية، بل من يجرؤ أن يبقى في ساحة الحقيقة حتى النهاية.
سؤال 4: هل فقد الشعر بريقه وأصبحت الرواية ديوان العرب الجديد؟
عبير النحاس:
الشعر كان وما يزال ديوان العرب، خزاناً لتاريخهم وعواطفهم وصراعاتهم. لكنه اليوم لم يعد وحده في الصدارة. العصر تغيّر، وتبدّلت الوسائط، وصارت الرواية أكثر قدرة على احتواء تعقيد الحياة الحديثة.
ومع ذلك، لم يفقد الشعر بريقه؛ هو باقٍ في زوايا الوجدان، في صوته المكثّف وصورته الخاطفة. أمّا الرواية، فهي تمتدّ أفقاً، تصنع العوالم وتوثّق الحياة، وتمنح القارئ تجربةً كاملة.
أنا أرى أن الرواية ليست بديلاً عن الشعر بل امتدادٌ له، فكلّ عملٍ قصصيّ أو روائي أكتبه هو استمرارٌ لذاكرة الشعر العربي، لكنه يعبّر عن زمنٍ جديد. الشعر يوجز الوجدان، والرواية تبنيه، وكلاهما معاً يصنعان هوية الأمة وذاكرتها.
سؤال 5: مقولتا غاندي “يمكنك قتل الثوار، لكن لا يمكنك قتل الثورة” و”أولاً يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يقاتلونك، ثم تفوز” تبدوان ملهمتين. هل تنطبقان على الحالة السورية؟
عبير النحاس:
نعم، تنطبقان بكل تفاصيلهما. لقد رحل كثير من الثوار، لكن الثورة لم تمت. صمدت في ذاكرة الشعب، في قصصه، في دفاتر الأطفال الذين يرسمون الحرية بألوانٍ من دموعهم.
مررنا بالمراحل كلّها: التجاهل، السخرية، القمع، ثم النصر. واليوم بعد التحرّر، يبدأ التحدّي الأصعب — كيف نصون هذا النصر ونحوّله إلى بناءٍ فكريّ وثقافيّ مستدام؟
بالنسبة لي، الكتابة فعلُ وفاءٍ للثورة، كلّ رواية وقصة هي استمرارٌ لنبضها. نحن نكتب لا لنرث الألم، بل لنحوّله إلى معنى، ولنخلّد الشهداء بالكلمة كما خلدوا الوطن بالدم.
سؤال 6: التسامح بعد سقوط النظام… هل ترينه ضرورة أم خطراً؟
عبير النحاس:
التسامح الحقّ لا يعني النسيان، بل الوعي. نعم، نحن بحاجة إلى تسامحٍ وطنيّ متوازن، يقوم على العدالة الانتقالية لا على العفو المطلق. فالعفو الذي يُهمل المحاسبة يكرّس الظلم.
الشجعان وحدهم قادرون على التسامح دون التنازل عن الحقّ. التسامح ليس غفراناً للمجرم، بل بدايةً جديدة للمجتمع. علينا أن نعيد بناء الوطن على أسس العدالة، وأن نحفظ الذاكرة كي لا تتكرّر المأساة.
كلّ نصّ أكتبه هو محاولة لترميم هذه الذاكرة، لتبقى العدالة والحرية قرينتين في وطنٍ يتعلم أن السلام لا يولد من النسيان، بل من المواجهة الشجاعة.
سؤال 7: جمعتِ بين الأدب والرسم، هل التعدد بين الفنون يغني المبدع أم يُشتّت إلهامه ؟
عبير النحاس:
على العكس، الجمع بين الفنون يغذّي الإبداع. الرسم يجعلني أرى العالم بالألوان، والأدب يتيح لي أن أنطقها بالكلمات. التعدد المعرفي يمنح المبدع وعياً أشمل ورؤيةً أعمق.
في زمنٍ يُقدّس التخصّص، قد يبدو التنوّع ترفاً، لكنه في الحقيقة مصدر قوة. فالفنان الذي يكتب، والطبيب الذي يرسم، والمهندس الذي يفكر فلسفياً… جميعهم يوسّعون حدود الإبداع.
أؤمن أن الوعي الجمالي لا يتجزّأ، وأن الفنّ والأدب يلتقيان في جوهرٍ واحد: تحويل الواقع إلى تجربة إنسانيةٍ راقية.
سؤال 8: من موقعك في اتحاد الكتّاب العرب، ما المشاريع التي تعملين عليها؟
عبير النحاس:
التحدي الأكبر هو تحويل الرؤية الثقافية إلى فعلٍ واقعي. من خلال رئاستي لفرع حمص، أسعى إلى إنشاء منصّاتٍ حيّة للإبداع، عبر توسيع المكتبات العامة، وتنظيم ورشٍ أدبية وفنية للأطفال والشباب، وإطلاق مسابقاتٍ تشجّع المواهب الجديدة.
كما نعمل على بناء شبكة تواصل بين الكتّاب والمؤسسات الثقافية محلياً ودولياً، لتسهيل النشر والتبادل المعرفي. الثقافة ليست ترفاً ولا موسماً، بل مشروع بناءٍ وطني.
كلّ عملٍ ثقافي هو استمرارٌ لرسالتي الأدبية: أن نحيا بالوعي والجمال، وأن نعيد للثقافة دورها في صياغة وعي الإنسان السوري الحديث.

سؤال 9: بعد حربٍ أحرقت الحجر والبشر، هل ما زلتِ متفائلة بمستقبل سوريا؟
عبير النحاس:
نعم، ما زلت متفائلة. ليس تفاؤلاً ساذجاً، بل إيماناً عميقاً بقدرة السوري على النهوض. الحرب دمّرت المدن، لكنها لم تقتل الروح. كلّ مدرسة تُفتح، كلّ مكتبة تُقام، كلّ لوحةٍ تُرسم، هي نبتة أمل في أرضٍ احترقت.
سوريا ستنهض بخطواتٍ صغيرةٍ متراكمة: بالعلم، بالثقافة، وبالإصرار. الكلمة والفنّ والمشروع الثقافي أدواتنا الحقيقية في بناء المستقبل.
الأمل باقٍ في العيون التي لم تستسلم، وفي الأيدي التي ما زالت تكتب وتزرع وتبني.
ختاماً
عبير النحاس ليست فقط كاتبةً أو فنانة، بل شاهدة على عصرٍ من الألم والتحوّل. صاغت بالكلمة ذاكرة وطنٍ، وبالريشة صورة إنسانٍ ينهض من رماده.
من حمص إلى إسطنبول، ومن الحبر إلى الضوء، تمضي رسالتها: أن تبقى الكلمة حياة، وأن يظلّ الأمل هو الوطن.
أجرى اللقاء الأديب والكاتب السوري الأستاذ “نعيم مصطفى الفيل”