استهلال
تحتضن “ذاكرة وطن” سوريين أبدعوا في عطائهم الفكري والثقافي، مما أبقاهم راسخون في مداميك بناء وجدان الأمة السورية. خُلِقوا من تراب سوريَّة، وعاشوا بيننا ردهاً من الزمن، ورغم أنَّ أجسادهم عادت إلى تراب الوطن، لكنَّهم ما زالوا أحياء يعاصرون ما استشرفوا فيه وهم أحياء. ولما كان تاريخ الأمم يقاس دائماً بمستوى الوعي الجمعي لمواطنيها، لذلك تنبري “مآلات” بتسليط الضوء على القامات المؤثرة في البنية الفكرية من السَلَف ومن الخَلَف. وقد تمَّ اختيار “محمد الماغوط” أنموذجاً نفتتح به هذا المحتوى.
لقاءٌ مع من كتب “سأخون وطني”
<< محمد الماغوط تنبأ بموته قبل أن يحدث ... وفي موقف آخر تصدى لمن يستغلون طيبة قلبه، قال لهم من الآن سأكون غالي الثمن >>
"ملك صهيوني الصوفي" - دمشق
لا شيء يربطني بهذه الارض سوى الحذاء/ لا شيء يربطني بهذه المروج/ سوى النسيم الذي تنشقته (صدفة) فيما مضى/ ولكن من يلمس زهرة فيها يلمس قلبي؟ من قصيدة مقهى في بيروت ديوان غرفة بملايين الجدران. أهي غرفة بملايين الجدران حقاً تلك التي يعيش فيها الشاعر محمد الماغوط؟
سؤال ألحَّ على ذهني وأنا ذاهبة لألتقيه من أجل هذا الحوار..كانت بيوتات دمشق تعبق بياسميناتها وتوزع الأريج على طول الطريق، بينما أستجمع أسئلتي وأستعيدها في ذهني، وأنا أتذكر كلام الأصدقاء عن الشاعر الذي لا يحب الصحافة، ولا يلتقي بالصحافيين، ولا يتحدث في حوار إلا في ما ندر. ثائر ومتمرد على الدوام، لا يعرف المهادنة، ولا يصالح أحداً. في شعره يلتقي عنفوان الشخص بعذابات الإنسان المواطن الذي يبحث عن هوية في عالم لا يريد أنْ يتعرف عليه:
على هذه الأرصفة الحنونة كأمي أضع يدي
وأقسم بليالي الشتاء الطويلة
سأنتزع علم بلادي عن ساريته
وأخيط له أكماماً وأزراراً وأرتديه كالقميص
إذا لم أعرف في أي خريف تسقط أسمالي.
وإنني مع أول عاصفة تهب على الوطن سأصعد أحد التلال/ القريبة من التاريخ وأقذف سيفي إلى قبضة طارق/ ورأسي إلى صدر الخنساء/ وقلمي إلى أصابع المتنبي/ وأجلس عارياً كالشجرة في الشتاء حتى أعرف متى تنبت لنا/ أهداب جديدة، ودموع جديدة في الربيع؟
وطني أيها الذئب الملويّ كالشجرة إلى الوراء/ إليك هذه الصور الفوتوغرافية للمناسف والأهراءات/ وهذه الطيور المغرّدة، والأشرعة المسافرة على (طوابع البريد)/ إليك هذه الجحافل المنتصرة والجياد الصاهلة على الزجاج المعشق ووبر السجاد/ إليك هذه الأظافر المدّخرة/ في نهاية الأصابع كأموال اليتامى بها سأكشط خطواتي عن الأرصفة سأبتر قدمي من فوق الكاحل طفل كبير، تجتمع بين يديه موهبة الشعر وتلازمها موهبة أخرى هي موهبة التمرد والثورة.
يكتب الشعر مثلما يخطو في الحياة ووسط أكثر من معسكر للشعر والشعراء، نجد أنَّ منتقدي قصيدة النثر يميزونه كمعلم ويعترفون بشاعريته العالية.
وهكذا كان الحال مع الشاعر عبد الله البردوني الذي رحل عن دنيانا والذي صرَّح في واحد من أواخر أحاديثه عن وقوفه ضد تيار قصيدة النثر. وعندما سُئل: أليس في كلامك ظلماً؟ قال: بل هو ظلم للماغوط فقط لأنه شاعر كبير. لكن الشاعر الذي قال ذات يوم: هناك نحل.. وهناك أزهار، ومع ذلك فالعلقم يملأ فمي، هناك طرف وأعراس ومهرِّجون، ومع ذلك فالنحيب يملأ قلبي.
من ديوان الفرح ليس مهنتي
الماغوط، هذا الشاعر لا يحب الكلام، يصمت كثيراً ويكتب، كأنما يخبيء كلماته للشعر مخافة أنْ تنضب.. ومع ذلك كنت ألاحقه من مكان لآخر. ألتقيته مراراً في كافتريا فندق الشام، وفي بيته. وهيّأت إلى لقاء يجمعه بالأصدقاء. كنت أراه صباح كل يوم في فندق الشام حيث موعده اليومي من العاشرة حتى الحادية عشرة، كثيرا ما يأتي ماشياً متعكزاً على عصاه. والمسافة التي يقطعها لا تقل عن ثلث ساعة زمناً. وحين يعود إلى بيته لا يخرج منه إلا لتلبية دعوة من صديق إنْ أحبّ.
حقاً.. الماغوط عاش خارج الزمكان!
قال لي: “لا أحب السين والجيم، أكره هذه الطريقة من الأسئلة”.
ولهذا كان عليَّ أنْ أُكثر من زياراتي له لأسرق من كلماته ومن ذكرياته ومن عالمه اليومي.
في زياراتي الأولى له، كان وحيداً لأنَّ “سلافةَ” – ابنته الصغرى – كانت تزور أختها “شام” في أمريكا،
سألني كيف تحبين القهوة؟ فقلت: أنا أعدّها. فقال: تعالي معي إذاً إلى المطبخ، أعددت القهوة، وأعدَّ لنفسه أول كأس من الشراب ومن ثم جلست أمامه يرهبني صمته.
.ـــ إنَّه مضر بصحتك،
ــ لا أخفيك أنَّ هناك صراعاً بيني وبين المشروب، ولكنني لا أستطيع العيش بدونه،
ــ ولكنه مصروف ضخم عليك.
.ــ أنا لا أريد شيئا. يكفيني أنْ أعمل لأنتج ما يكفي مشروبي ودخاني، ولهذا فأنا أعمل قليلاً.
كان في حزنه عَتبٌ على الوطن، وكوابيس تتصاعد مع كأسه الأولى، سألته وصورة ابنته “شام” إلى جانبي موضوعة على طاولة صغيرة من سماها شام.
قال:
زوجتي. لأننا عندما تعارفنا وأحببنا بعضنا، كنا في الشام، ودمشق جزء مني، وأنا جزء منها، ولا أستطيع العيش بعيداً عنها، ولا أنْ أعطيها ظهري. إنها في دفاتري.
عندما حصلت على هاتف بيته، كانت سعادتي لاتصدق. رفعت السماعة وقلت: الشاعر العظيم محمد الماغوط ؟ أجاب:
“مش كتير.. أهلين“.
أجبته أنا صحفية أعمل في مجلة (الزمان الجديد) التي تصدر في لندن وأتمنى أن أراك .
خوفي من رفضه كان مسبقاً لكثرة ما قيل لي أنه لا يجري حوارات، ولا يلتقي أحداً، وأنه من سابع المستحيلات أن تحصلي منه على كلمة.
ــ أنا لا أجري لقاءات صحافية. فقط أريد أنْ أتعرف على أعظم شاعر، وأن أ لتقط لك بعض الصور.
“طيب أنا كل يوم أذهب إلى كافتريا الشام، وأبقى من العاشرة حتى الحادية عشرة“.
حَلَّقت من فرحي، إنها الخطوة الأولى، كنت واثقة من وصولي إليه. أقبل كطفلٍ كبيرٍ طيّبٍ، وصديقته عصاه، وجريدته ملتصقة بصدره باسماً، شارداً وهالة من الهدوء والرهبة ظللتا المكان الذي خطر به. نهضت وصُعقت من الفرحة، وبدأت ألتقط الصور.
شعرت أنني من صورة سأحصل على أسطورة.
أكره السفر والسلمية مثل لندن … حدثيني عن المجلة التي تكتبين بها من يُديرها، ومن يُموّلها؟
قلت له: رئيس تحريرها سعد البزاز وهي ليست تابعة لأحد، مجلة حرة صادقة وقائمة على كلمة الحق.
“هيك.. شوفي يا مالي (ملك) أنا لا أجرى لقاءات. ولكن تكلمي معي في الهاتف لنلتقي في مكان أكثر راحة وهدوءاً”.
وسألته : ألا تريد أن تأتي إلى اسبانيا، إذا ما أرسلت لك دعوة؟
أنا أكره السفر ولا أسافر إلا مخاجلة.
نهض، ونهض المكان معه إجلالا. لقد حان وقت عودته إلى البيت، شيء ما من الداخل يلاحقه، يعاجله فيضع قبعته الرمادية ويرحل مبتعداً تاركا أكاليل من ياسمين دمشق تتساقط وراءه. متفرداً، متميزاً، بركاناً هادئ، ولكن إذا ما انفجر لا يبقي على شيء، إنه كجبل قاسيون صامداً، هكذا قال فيه الفنان رضوان عقيلي. “ولكن دمعة دمعة تجري من فوق إلى أسفل”،
في اليوم الثاني، تكلمت معه في الهاتف. كنت مريضة، شعرت بقلقه، هذا الجبل الصارخ، الهادر، إنسانيّ إلى حد بعيد. قال:
“في العمارة طبيبة اختصاصية، تعالى أنزل معك لتراك وتعالجك”.
محمد الماغوط أبو الإنسانية والشفافية، أثناء زياراتي له كنت أجلس أمامه كقطة تأنس إلى مربيها، رأى المسجلة معي، بادرني معترضاً بسؤاله “ما هذا؟“
وعدته أني لن أفتحها، قائلة: سأسجل كلماتك في عقلي، كنت أنتقل معه من موجة التأمل إلى موجة التذّكر، إلى ومضات من الغضب.
لا أحب منطق الإرادة
قال:
“أحب أنْ أكون حراً دائماً، لا شيء يقيدني، لا المكان ولا الزمان. عندي السلمية مثل لندن، والمقهى مثل البيت. أتصرّف بحريّة دون ازدواجية، ولا أحب منطق الإرادة، كأن يقول أحدهم لقد تركت الدخان”.
وأردف قائلاً: “يا عيني عنده إرادة،، إي طز“.
في بيته كان يجلس أمامي وبطنه عامر بالهموم والمشاكل والمعاناة، مندلق أبيض يطفح، وغيمات تعبّر بين الحين والآخر، وأنا أمامه أخشى جرح عالمه الغارق فيه خارج الزمكان.
قال:
“بقيت لفترة طويلة ثلاثة أشهر. رفيقي كان الشراب، لكثرة الهموم والمعاناة، آنذاك تواطأت على جسدي وعاملته كعدوّي، وأدخلوني المستشفى، أجروا لي عملية غسل من الكحول، وعندما خرجت عدت إليه، أحد المسؤولين إلتقاني فقال لي: شو يا محمد، سمعنا بأنك تشرب كثيراً؟. فأجبته: لولا الشرب، كيف سأتحمَّلكم”.
سألته عن الطفولة، فقال:
حتى سن الرابعة عشرة كنت في السلمية 1934 طفولة ربَّت ونَمَّت عندي الإحساس بالتمرُّد على فوارق اجتماعية قاتلة. أمي، تعلّمْت منها الصدق وعدم الخوف من قولي، ولهذا يخاف الجميع من لساني ويتحاشونني.
لقد رافقه البؤس وعاش فترة طويلة متنقلاً من غرفة إلى غرفة لأنه كان يصل إلى مرحلة يعجز فيها عن دفع الايجار فيترك ما لديه من أشياء مقابل ما عليه، باحثاً عن مكان اخر.
غرفة بملايين الجدران
في بيته رأيت لوحة جميلة فيها عصفور أحدب، رسمها وأهداها له الفنان التشكيلي فاتح المدرس رحمه الله، إنَّها قصّة العصفور الأحدب وقد جاءت من صميم حياته.
قال: “عشت فترة طويلة في بيت نُصِيَّة”.
وسألته: ما معنى نصية؟
قال شارحاً”
“السقف يكون واطيء جداً، بحيث يبقى الجسم محنياً، والسبب أنَّه كان رخيصاً، فكان عليَّ أن أبقى محني الظهر، ومن هنا جاءت قصة العصفور الأحدب. إذْ كنت فيها كالأحدب، وفي هذه الغرفة أيضاً كتبت-غرفة بملايين الجدران“.
في حديثه نقمة ويأس وإحساس بالهزيمة والعار ، تحدث كثيرا عن المخابرات والسجن. وذكر أنّ بداياته الأدبية كانت في السجن. هذيان في الرعب والحرية.
قال:
“كل ما أشتهيته وأحببته رأيته في السجن. أنا أحب المرأة وأعشقها، ولا أحب الرجل، أحب المرأة والحرية، الرجل خائن، في السجن كنت أكتب على ورق الدخان وعلى ورق المحارم. ظننت أنني أكتب مذكراتي ولكن اكتشفت انها كانت شعراً:
حلوة عيون النساء في باب توما
حلوة حلوة وهي ترنو حزينةً إلى الليل والخبز
وجميلة تلك الاكتاف الغجرية على الأسرة
لتمنحني البكاء والشهوة
يا أمي ليتني حصاة ملونة على الرصيف
او أغنية طويلة في الزقاق
هناك في تجويف من الوحل الاملس
يذكرني بالجوع والشفاه المشردة
حيث الاطفال الصغار يتدفقون كالملاريا
ليتني وردة جورية في حديقة ما
يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهار
أمَّة مُنهارة ولكنَّها غير مَهزومة
سألته عن هزيمتنا اليوم على كل الأصعدة.
فأجاب:
“نحن أمَّةٌ مُنهارةٌ. وإلى الآن غير مَهزومة، وطالما يوجد شباب يوزعون نصاً للماغوط على الإنترنت فنحن لسنا مَهزومين وأكبر دليل على ذلك، انك في بيتي تسعين وراء حديث معي.
ــ وماذا عن المثقفين اليوم؟
“من بعد الخمسينات لا توجد ثقافة. ولا مثقفين، هناك مرتزقة ثقافة، إذهبي إلى السفارة الامريكية تجدينهم ينتظرون في صف طويل ليسافروا إلى أمريكا.
اليوم لا يوجد يسار صادق، فاليساري الصادق يصمد حتى النهاية، ولا يسقط، المثقفون اليوم يُنظّرون كثيراً، يبيعون حكي وأنا لا أحبُّ التنظير، لا أحبُّ سماعه ولا الخوض فيه. أنا لست اجتماعياً ولا أحبُّ وسط المثقفين، أحب عزلتي في بيتي وأحاول الحفاظ عليها”.
ــ وجمهورك الذي يحبك؟
“أحبُّه ولكنْ الآن لا أستطيع أن أفعل له شيئاً. ثم إن جمهوري مُعَتّر مثلي، مُتعَب ويفتقد المادَّة. اليوم الناس لا يقرأون للماغوط، المال والماغوط لا يجتمعان“.
ــ ألم تفتقد الأصوات المدافعة عن العراق وعن شعب العراق، هناك صمت بين المثقفين غير عادي؟
“هذا صحيح، لقد اعتادوا على مهرجانات المربد وعطايا مهرجانات المربد، ولهذا ما سمعنا صوتاً. فالوضع الثقافي اليوم في انحطاط عام، تجدين شاعراً يكتب قصائد عن السجن من دون أنْ يجرِّبه، ويكتب عن الإرهاب وهو يتناول كأسا في بار في دولة أجنبية“.
سألته: كثر الشعراء وكل يوم تطالعنا عشرات الكتب الشعرية؟
“إنَّ عالم الفن والأدب اليوم، مثل المستنقع لا يوجد فيه إلا الصغار، والصغير دائماً يحاول أنْ يقطع عنق الكبير، إنَّهم يتكاثرون كالطحالب فوق المياه الراكدة. عُهْر ٌ ثقافيّ والإعلام يدعمه، وما الإعلام الفضفاض إلا لإخفاء الحقائق”.
ــ متى تكتب؟
“كتابتي وقراءتي ومأكلي ومشربي، كل ذلك واحد عندي، لا أحضر نفسي له وإنما أمارسه حين أشعر بالحاجة إليه، فأنا أكتب لنفسي لا أكتب لأحد. وعندما أرضى عن نفسي بالكتابة، أشعر بالسعادة. ولكن كثيراً ما تمقتني الشخصيَّات التعبانة، فكل يوم ألتقى بأحدهم فيسألني: (شو أستاذ شو كتبت لنا اليوم؟)، أو واحدة تطقطق بعلكتها فتسألني: (شو أستاذ محمد، (كام) مسرحية كتبت لنا اليوم؟). معاناة يومية من هذا النوع وكأنني (عَشِّيّ) أُسأل شو طبخت لنا اليوم؟. هذا غبنٌ، وأشعر أنني مَغبون مع الجميع. عندما سافرت إلى هولندا مدعواً، كانت الدعاية منتشرة في كل مكان، رأيت بطاقات الدخول وقد وضعوا لها سعراً غالياً. وعندما جاؤوا ليحاسبوني دفعوا لي ما لا يذكر، وأنا محمد الماغوط.. في الوقت الذي نجد طائرات خاصة ترسل إلى أية راقصة لتحيي ليلة سَمَر، يدفعون لها آلاف الدولارات وتستقبلها أهم الشخصيات، فلماذا على الماغوط أن يقيم ندوات مجانيَّة؟ قررت أن لا أفعل. ومن الآن فصاعداً سأتقاضى عن كل ندوة أقيمها، أنا غالي الثمن. هكذا سأكون”.
“الانحناء كالصقور الهاربة
أيها الشعراء الموتى
الاختباء في زحام القطارات
وتحت أذرع التماثيل
الرقاد على الحصى
والغبارعلى بطون الزوجات المتسخة برائحة السمك والصابون
حتى تبزغ شمس جديدة وعقول جديدة تفهم نعاسنا في المقاهي
وقهقهاتنا خلف رذاذ السفن وبكاء المدافع.
“من ديوان غرفة بملايين الجدران”.
وفي سهرة أقمتها له في بيت صديقة هي الفنانة التشكيلية عتاب حريب، دعوت أيضاً الشاعر الفنان نزيه أبو عفش والممثل المعروف رضوان عقيلي. كان الماغوط سعيداً لأنه كان يحب الحاضرين ويرتاح إليهم. تحدثنا عن الأسفار والرحلات والآثار.
فقال:
“أنا لا أحب الآثار ولا التاريخ، وعندما ذهبت إلى الأهرامات في مصر كدت أختنق من رائحة التاريخ. التاريخ لا يعنيني. كانوا يهزأون من طيبتي”.
ذكريات الما غوط في الخمسنات
كان محمد الماغوط يعتلي سلم الشهرة في خمسينات القرن الفارط. وعن هذه الفترة قال:
كنا مجموعة أصدقاء، فنانان ونحات، شعراء وكُتّاب، كتلة من المثقفين، كانت أيام جميلة جداً مليئة بالعطاء والحرية والجمال. إنَّها من أجمل مراحل حياتي الشبابية، إنَّه عصام محفوظ ورفيق شرف وأنسي الحاج وسمير صايغ وشوقي أبو شقرا وسعيد مخلوف وهو من أعز أصدقائي، وكان من القوميين السوريين.
ثم سأله الفنان رضوان عقيلي عن نتائج مسرحية (خارج السرب)، وهبط السؤال كعود ثقاب على خزين من الأسى والغضب المدفونين:
“يضحكون علي ويهزأون من طيبتي. وكأنني طفل صغير وساعدهم على ذلك خجلي لأنني خجول بطبعي، لقد ضحك عليَّ جهاد سعد، وقال إنَّ المسرحيَّة ما اشتغلت جيداً، لطش المصاري، أعطى القليل جداً حتى للعاملين في المسرحية، ما أعطاهم إلا القليل. معظم الذين عملت معهم في المسرح استغلوا طيبتي حتى دريد لحام، فقد استغلَّ طيبتي واستغلني للعبور .ولهذا فأنا أفكر بأن أشكّل فرقة مسرحيَّة خاصةً بي وأسميها فرقة محمد الماغوط لأكون بها حراً“.
والتفت إلى الممثل عقيلي يسأله:
هل أنت حرٌ يا رضوان؟ هل تحبّ أنْ تعمل في المسرحيَّة؟
ــ هذا شرف عظيم لي، ان أعمل مع الأستاذ محمد الماغوط.
ــ أنا مستعدة للعمل معك دون أجر. قالت عتاب.
كانت تصدح فيروز وأغنيتها الأخيرة (سلّملي عليه)، الجميع يرددون معها بهدوء وارتياح وطلب الماغوط أنْ نقرِّب له الكنبة، ففعلنا بكل حب، فمع الماغوط لا تستطيع إلا ان تكون أصغر منه.
قال نزيه أبو عفش كل ما قاله أستاذنا الماغوط رائع وجميل. ولكنني أحببت القصيدة التي ينهيها بــ وأسأل الله ان يبيد هذه الامة.
ــ ايه (علق الماغوط):
“أمّة تعبانة. يشرب كثيراً ويدخن أكثر من أربع علب من الجيتان”.
وصرح لنا: إنَّه كل يوم بعد الظهر يبدأ بالشرب، كأسان كبيران، ويختمهما بكأس آخر.
وحيد، حزين متفرد بالشفافية والرعشة وتفاقم حزنه منذ فقد زوجته، كل الذين التقيت بهم قالوا لي أنَّ “سنيَّة” كانت إمرأة في غاية الروعة، كانت زوجته ورفيقته وحبيبته، كانت ملاذه ووطنه ، كانت عالمه الأكبر، قال لي ذلك وليد اخلاصي عندما أجريت لقاءاً معه. وكذلك تحدث عنها بالرقة نفسها نزيه أبو عفش وحيدر حيدر. الجميع تحدثوا عن “سنيَّة”، والماغوط ذكرها وكتبها شعرا وغزلا، إنَّها موجودة في كل خلية من خلاياه وفي كل حرف، وهو ناقم على الموت لأنه خطفها منه ولم يشبع منها بعد، إنَّها في أحلام يقظته، وهو عاتب على الحلم لأنه يبخل بصورة حبيبته، وكأن الرقابة وصلت إلى الأحلام (كما قال).
وقال وليد اخلاصي بأن “سنيَّة” لم تأخذ حقها، ولم تُنصَفْ، وقد غطى عليها اسم الماغوط. وأنَّ فقدانها سبب الحالة التي يعيشها الماغوط اليوم. نزار قال اني اعظم شاعر في الوطن العربي في السهرة تحدث الماغوط عن فاتح المدرس، قال عنه انه افضل فنان تشكيلي في سوريا وانه كان يريد ان يجري حوارات معه ليكتبها ويخرجها في كتاب، ولكن الموت خطفه قبل البدء بهذا المشروع.
في الحادية عشرة والنصف ليلاً، طلب مني مرافقته إلى التاكسي الذي طلبناه.
قال إنَّه ينتظر مكالمة هاتفية من “سلافة” ابنته الموجودة عند أختها في أمريكا، رافقته متعكزا علي وعلى عصاه، تتالت زياراتي إلى بيته، كنت أشعر بالزهو عندما كان يقول لي: “مري بكرة، تعالي وقت ما تشاءين”، لقد بدأت جدران عزلته تتساقط
سألته عن نزار قباني فقال:
“أنا أحب نزار وشعره جدا لأنه كان يحس الكلمة ويشعر بها، كان يشعر بالحدث، وقصائده نابعة من إحساس صادق، وهو أفضل من صوَّر عواطف المرأة في الستينات. قال نزار عني بأنني أعظم شاعر في الوطن العربي، ولو كان قد قال هذا الكلام في البياتي لألَّف البياتي عشرات الكتب على هذه الجملة، نزار لا يقنعني كثيرا، فقط في قصائده الوطنية“.
وسألته:
- أنسي الحاج؟
“إنَّه الأكثر قرباً إليَّ، أحبُّه كثيراً، إنَّه طاقة جبارة ولكنه كناقدأفضل“.
- أدونيس؟
“أدونيس شاعر كبير، ولكنه أضاع نفسه في الخارج، يتحدث عن الوطن وهو بعيد عنه ويحاول أن يوهم نفسه والآخرين بأنَّه ممنوع من الدخول إلى الوطن، وهو في الحقيقة غير ممنوع، إنَّما ليثير نوعا من الدعاية، ولولا هذه التصرفات الصغيرة لكان أفضل بكثير… أدونيس يكون اكثر أ همية وعظمة في بلاده، في شعره أصالة، ولهذا لا يمكن أن يكون غريباً”.
- محمود درويش؟
“من دون شك إنَّه شاعر موهوب، ولكنه يميل والحدث، ويتغير بتغير المرحلة وهذا يعني انه غير صادق”.
- يوسف الخال؟
“رفيق أعتز به وصديق عمر، أيام جميلة أمضيناها معاً لا تُنسى. وكأنه جزء من الذاكرة وقد كان وأدونيس أول من اهتم بي شعرياً، في بيت يوسف الخال، كنت أشعر بمطلق الحرية، وكنت أحسُّ كأنني في بيتي، وكنت أحبأن آكل كثيرا في بيته لدرجة أنْ لا أبقي على شيء عنده. إنَّه إنسان بكل معنى الكلمة وشاعر، ولكن إنسانه أكبر من شاعره، خاصة بعد أن انتصب الشعر الحديث على قدميه“.
- زكريا تامر؟
“أحبُّه كثيراً ومن دون أنْ أسأله..“
سألني الماغوط: هل قرأتِ شيئا لزكريا تامر؟
ــ قلت له: نعم. فردّ عليَّ معلقاً: “إنَّ زكريا تامر صديقي من الخمسينات، وهو كاتب عظيم وأنا أحبُّه كثيراً“.
- نزيه ابو عفش؟
“شاعر سوري عظيم وفنان كبير. أحبُّه وأحترمه“.
- وعن الحلم سألته.. قال:
حتى الأحلام نحاسب عليها. راقبوها ووضعوا لها جلاداً.
- ما رأيك بالجوائز التي تعطي اليوم؟
“إنَّهم مرتزقة يبيعون أنفسهم من أجل المادة، تحوَّل معظم الأدباء اليوم إلى جماعة ماديين، فقد تساقطت العقائد والاديولوجيات، وجائزة نوبل لا تعطى إلا للذين يوافقون على السياسة الأمريكية ويعترفون بها وبإسرائيل، فليست طموحي أية جائزة من هذا النوع، فأنا لا أرتشي ثقافياً ولا مادياً.”
“أيها السجناء في كل مكان ابعثوا لي بكل ما عندكم من رعب وعويل وضجر “.
كان دائم الحديث عن السجن والمخابرات وكنتأشعر بمعاناته وكان لا يخشى أحدا. قال:
“أنا لا أخاف أحداً. وعندما أريد انْ أقول شيئاً أقوله، لا ممنوعات عندي، بل أحبُّ أن أتكلَّم أكثر عندما يخيم الصمت، وأنا لا شيء يغيرّني. ومن هنا أشعر بأهميتي كإنسان عربيّ صاحب موقف وكلمة ومبدأ”.
- عن الوضع السياسي اليوم؟
“كل شيء يخطط له. هناك (بوط) أمريكي يحكم العالم، وبسقوط الاتحاد السوفييتي فرغت الساحة لهذا البوط. وكل ما حدث ويحدث في العالم يسير ضمن المخطط . وفي ظلِّ هذه الأوضاع وهذه الأزمات تتساقط المُثل والمبادىء ولا أحد بقي إلا الإنسان الأصيل والكاتب الأصيل”.
- ما تأثير نظام العولمة على الماغوط؟
“لا شيء يؤثر على الماغوط ولا على حذائه، أنا بعيد عن العولمة فهي لا تعنيني ولا أخشاها“.
- الموت؟
“لا يخيفني، فحالات الموت التي نعيشها اليوم كثيرة جداً. وهذا ما يجعلني غير مطمئن لشيء وغير واثق من شيء ولا شيء يسعدني على الاطلاق إلا “سلافة” و “شام” ابنتاي، فهما النسمة التي استنشق والألم الذي أعيش فيه ولأجله، هما عصب حياتي وبدونهما الحياة لا قيمة لها عندي“.
- ما الحد الفاصل ما بين الشعر والنثر؟
“حتى الان لا يوجد فرق أو أنا لا أشعر بفرق، وأنا اشعر بغريزتي لأن الشعر مشاعر وعاطفة لا سلطان للعقل عليهما”.
في أخر زيارتين لبيته ، كانت “سلافة” قد عادت من زيارة أختها، فأعادت معها الهدوء والإطمئنان إلى حياة الماغوط.
الماغوط ذلك الجبل البركاني الصامد، الواضح والصريح ،كالسهل لا يستر ولا يتستر على الأخطاء والعيوب، صاحب مبدأ وطاقة متفجرة، حزين، قلق، ساخر، مرتبك وخجول، طيب جداً، وعبقري ناقم، ليس وسطياً، ولا رمادياً إلا في اللباس، معلم شِعريّ، شهم كريم، جاء في مرحلة خصبة، لم ينحن لأحد، أشرعته الصدق والشهامة، لا يعترف بإسرائيل ولا باتفاقيات الصلح.
رأوا في الماغوط
قال وليد اخلاصي:
“محمد الماغوط حالة ثقافية سهلة، لأنه لا يمكن الاعتراف بها، لأنه موهبة تشبه البدوية التي تعلن عن جمالها من دون كحل ومن دون لباس، وصعب جداً فهم محمد الماغوط لأنه حالة ثقافية معقدة تمثل نوعاً من النقمة المحبة للبلد، وأجمل شيء فيه هذه النقمة المحبة وهذا يجعله واحداً من أفضل الناس الذين عبَّروا بشكل غير مألوف عن محبتهم لبلدهم، إضافة إلى أنَّه يمتلك نوعاً من الموهبة الكتابية التي خلقت مدرسة جديدة في الشعر ولأول مرة يصبح الشعر المنثور محفوظاً لدى الناس. مع أنَّه من الصعب حفظ شعر غير موزون. لكن الايقاع الداخلي في شعر محمد الماغوط أكثر حيوية من كثير من القصائد الموزونة، بالاضافة إلى أنَّ محمد الماغوط رغم قلته في الانتاج، عمل بعض الأعمال المسرحية التي يمكن أنْ تكون علامة في تاريخ المسرح الجديد في حياتنا. فيه ميزات المسرح الشعبي الذي يفهمه الناس ويحبونه، وفيه نوع من الهجاء العقلاني للحياة التي تحيط فيه. ولذلك فأهمية محمد الماغوط أنَّه لا يوجد اثنان اسمهما محمد الماغوط يوجد واحد فقط.
وقال الروائي حيدر حيدر:
قلت عنه أكثر من مرة، هو شاعر من الذين جدَّدوا في قصيدة النثر، وباعتقادي بأنَّ هذا التجديد كان ممتعا وعظيماً، وأصبح رائداً في قصيدة النثر. محمد صديق قديم من أيام الستينات، كنا قريبين من بعضنا البعض، أنا أعتقد أنَّه مُبدع في الشعر أكثر مما هو مُبدع في المسرح، فمسرحه أقل مستوى من شعره، أتمنى له الشفاء وأنْ ألتقيه قريباً.
اما نزيه أبو عفش فقال:
لا أستطيع أن أتحدث عن الماغوط لأنني أحبُّه جداً، شاعران كبيران عندي لا أستطيع الحديث عنهما وهما الماغوط ومحمود درويش.
المخرج الفنان هيثم حقي قال فيه:
محمد الماغوط شاعر عظيم بشكل أساسي. وهو مسرحي. أنا شخصياً أحبُّ مسرحه كثيراً. هناك مسرحية عظيمة مثل المُهرِّج، والمسرحيات التي عملها مع دريد لحام هي مسرحيات جماهيرية، ولكنها ليست مسرحاً عظيماً. (المُهرِّج) هي مسرحيته الكبيرة، رجل المسرح، بذل جهداً كبيراً، شخص مبدئي. كاتب زاوية رائع، لأنه واحد من أحسن كتّاب الزاوية، هو وزكريا تامر لا أحد يكتب مثلهما، لكنه شاعر، أنا أذكر أنَّه في الستينات قرأت في ديوانه: “الفرح ليست مهنتي”. هذا الديوان كان له تأثير كبير عليّ. الماغوط حياته وشخصيته أيضاً لهما قيمة، لأنه مبدئي في حياته وتعامل بشكل مبدئي. لذلك هو من الناس القلائل، هو من أهل الحُبّ.
أجرت اللقاء: ملك صهيوني صوفي