مدخل إلى كشف الغطاء عن سرانيَّة النبي كيكي
يحفل التراث السوري الشعبي بالعديد من الأقوال والمرويات التي ترددت على ألسنة الأجيال دون معرفة جذورها أو الشخصيات المرتبطة بها. من بين هذه المقولات الشائعة: “والله هالشغلة بدها حلم النبي كيكي”، التي تُستخدم للدلالة على أن الأمر معقد أو يحتاج إلى حكمة استثنائية لحلّه. ورغم شيوع العبارة في مختلف المناطق السورية، فإن أغلب من يرددها يجهل أصولها التاريخية أو شخصية “النبي كيكي” التي ارتبطت بها.
في الذاكرة الشعبية السورية كثير من الأقوال والمرويات المتداولة حتى اليوم، ومن أبرز هذه الأقوال مقولة: “والله هالشغلة بدها حلم النبي كيكي“، التي تُقال حين يُقصد أن الأمر شديد التعقيد أو يحتاج إلى حكمة استثنائية لحلّه.
يتلفظ به العَوام دون أن يتأكدوا من هو هذا “النبي كيكي“؟ وهل كان شخصية حقيقية أم مجرد خيال شعبي التصق بالوجدان العام؟
من القيل والقال إلى علم النقوش
الباحث الآثاري لا يركن إلى القيل والقال، بل يعتمد على الأدلة المادية مثل النقوش القديمة التي أصبحت اليوم مجال دراسة علم يُعرف بـ الإبيغرافيا (Epigraphy). ومن خلال هذه النقوش يتضح أن اسم “كيكي” لم يكن مجرد وهم شعبي، بل ارتبط بمكان وديانة وطقوس موثقة تاريخياً. وهو ما يقدم مدخلاً علمياً لفهم جذور هذه المروية الشعبية، ويربطها بديانة وطقوس موثقة لا بمجرد أقوال متوارثة.
حصن سليمان: المعبد المدهش
في محافظة طرطوس، وعلى بعد 27 كيلومتراً شمال شرقي صافيتا، يقع موقع أثري يعرف بين الأهالي باسم حصن سليمان. ورغم التسمية، فهو ليس حصناً ولا علاقة له بالملك التوراتي سليمان، بل هو معبد آرامي قديم يعود إلى بدايات الألفية الأولى قبل الميلاد.

الأسطورة الشعبية وراء تسمية “حصن سليمان”
يرجع السبب في إطلاق اسم “حصن سليمان” على المعبد إلى قناعة أبناء المنطقة بأن تشييده يفوق قدرات البشر. فقد بُني بأحجار هائلة الحجم تصل أبعاد بعضها إلى 10×2.7×1 متر ويتجاوز وزنها السبعين طناً، وهو ما اعتُبر إنجازاً لا يمكن تحقيقه بوسائل بشرية عادية. هذه الضخامة عززت الاعتقاد الشعبي بأن البناء تمّ بتسخير قوى خارقة.
وبما أن النبي سليمان ارتبط في الموروث الديني والقصص القديمة بقدرة استثنائية على تسخير الجن لبناء القصور والهياكل العظيمة، فقد نسب الأهالي هذا الصرح إليه وأطلقوا عليه اسمه. وقد تعزز هذا الاعتقاد بما ورد في الكتب السماوية، حيث صُوّر سليمان ملكاً عظيماً عُرف بعصره العمراني الزاهر، وجاء في القرآن الكريم: «وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ»، و*«يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ…»*.
إلا أن هذه التسمية، على جاذبيتها الرمزية، تظل جزءاً من الأساطير الشعبية، إذ لم تكشف التنقيبات الأثرية عن أي دليل مادي يربط البناء مباشرة بالنبي سليمان أو بقصصه الواردة في المرويات الدينية.
يبهر المعبد زائريه بحجارة أسواره الضخمة، التي يتجاوز وزن بعضها سبعين طناً، وبأبعاد تذكّر بحجارة معبد بعلبك في لبنان.
النقوش واللغات القديمة
تكشف النقوش المحفورة في المعبد – باليونانية إلى جانب الآرامية – عن هوية هذا المكان الذي كُرّس لعبادة “إله بيتو كيكي” أو “إله بيتو خيخي“. هذه النقوش مؤرخة بسنة 482 سلوقية (171م)، خلال الحقبة البرثية – الرومانية.
الحقبة البرثية – الرومانية (247 ق.م – 224 م)
الحقبة البرثية – الرومانية هي فترة تاريخية مهمة في الشرق الأوسط، تميزت بالصراع الدائم على النفوذ بين إمبراطوريتين عظيمتين: الإمبراطورية الفرثية (البرثية) التي كانت تسيطر على بلاد فارس وبلاد ما بين النهرين، والإمبراطورية الرومانية التي سيطرت على حوض البحر الأبيض المتوسط والأناضول. بدأ هذا الصراع بعد انهيار الإمبراطورية السلوقية (خلفاء الإسكندر الأكبر) في المنطقة، مما أتاح للفرثيين، وهم شعب من أصول إيرانية، تأسيس دولتهم القوية. توسعت الإمبراطورية الفرثية لتشمل مناطق شاسعة، وجعلت من نهر الفرات حدودًا طبيعية مع الأراضي التي سيطر عليها الرومان.
نبي أم كاهن أم صفة لإله؟
هناك فرضيات متباينة حول “كيكي” أو “خيخي”:
- النظرية الأولى: أنه كان كاهناً أو “نبياً” للإله العلي رب السماوات، أي شخصية حقيقية عاشت في مطلع الألفية الأولى قبل الميلاد، وكان له مقام ديني وحكمة روحية كبيرة. وقد أطلقت القرية اسمه “بيتو كيكي” (بيت كيكي) تخليداً له.
- النظرية الثانية: أن “كيكي” أو “خيخي” لم يكن شخصاً بل صفة للإله الإغريقي الأكبر زيوس، حيث تعني كلمة “بيت” المسكن الإلهي. بذلك يصبح “بيتو كيكي” مرادفاً لـ “بيت الإله زيوس”، إله الشفاء وحامي المعبد.
أدلة النقود والعمارة
دراسة النقود المكتشفة في الموقع تدعم الرأي الثاني، إذ تعود إلى زمن “أنطيوخوس الأول” في العهد السلوقي، وتؤكد أن المعبد بُني على الطراز الكلاسيكي الإغريقي. ثم جُدد لاحقاً في العصر الروماني على مرحلتين بالقرنين الثاني والثالث الميلاديين.
في تلك الفترات، كان المعبد مركزاً دينياً واقتصادياً، حيث تُفتح الأسواق أيام الأعياد، وتُوقف الأراضي المجاورة للمعبد لتمويل نشاطاته.
البعثات الأثرية والدراسات
عملت في الموقع بعثات عدة، منها بعثة “فرايبرغر” و “توماس فيبر” و “موريس سارتر” و “جان بول ريكوكي“، إضافة إلى مجموعة “الآثاري علي عثمان“، فيما درس “الدكتور ميشيل مقدسي” النقود المكتشفة وقدّم نتائج أبحاثه في “الحوليات الأثرية السورية“.
النقوش المتعددة التي وُجدت في المعبد وَثقَت تاريخ بنائه وتجديده، أبرزها نقش يوناني طويل بمقدمة لاتينية عند البوابة الشمالية الرئيسية، ونقش آخر على البوابة الشرقية يحدد زمن تجديد المعبد.
زيوس “البيتو كيكي”: إله الشفاء
أحد النقوش البارزة على قاعدة قرب ملحق المعبد يشير إلى فضل الإله زيوس “البيتو كيكي” في شفاء المرضى، ما يرسخ فرضية أن الاسم ليس لشخص بل لصفة دينية مرتبطة بزيوس نفسه. وهو ما يفند بعض المنشورات التي روجت لفكرة أن “كيكي” كان كاهناً أو نبياً للبعل الأمين.
من هو “البيتو كيكي” إله الشفاء
في النقوش المكتشفة بمعبد حصن سليمان يرد اسم "زيوس البيتو كيكي"، وهو توصيف مميز لكبير الآلهة الإغريقي زيوس في بعده العلاجي. فقد ارتبط هذا اللقب تحديداً بدوره كـ إله للشفاء وحامي المرضى، وهو ما تؤكده الكتابات المنقوشة على قاعدة ملحقة بمدخل المعبد، حيث يُشيد النص بفضله في علاج الناس ومنحهم الصحة. هذا الاستخدام الخاص لصفة "البيتو كيكي" يُفسر بمعنيين متكاملين:
-
بيت: أي المسكن أو المقر الإلهي.
-
كيكي/خيخي: صفة مرتبطة بالإله زيوس، تشير إلى قوته السماوية ودوره الروحي.
وبالتالي، يصبح "زيوس البيتو كيكي" بمثابة "الإله زيوس المقيم في البيت المقدس" الذي يقصده الناس طلباً للشفاء والبركة. ويعكس هذا البعد الدور الاجتماعي والروحي للمعبد، الذي لم يكن فقط مكاناً للعبادة، بل أيضاً مركزاً علاجياً ورمزياً يقصده الأهالي في أوقات المرض والأزمات.
خلاصة
ما بين الموروث الشعبي السوري الذي صوّر “النبي كيكي” حكيماً خارقاً قادراً على حلّ أعقد المسائل، وبين الحقائق الأثرية التي تكشف أن الاسم ارتبط بمعبد آرامي وزيوس الإغريقي، تتجلى ازدواجية الذاكرة السورية: ذاكرة تروي ما لا تدركه، وأدلة أثرية تصحح ما غيّبته الأساطير.