مقدمة
ورطني فضولي المعرفي، كي انتسب إلى دورة تعليمية لمدة عامين حول “تخطيط المدن”، في سبعينيات القرن الماضي، وحينها كان هذا العلم آخذاً بالانتشار في الدول العربية.
كانت مهمَّة إحدى الورشات العمَليَّة، أنْ يقوم الطلاب بدراسةٍ ميدانيةٍ للقرى المحيطة بمدينة دمشق، لكونها آخذة بالتوسّع العشوائي بشكلٍ مَلحوظ آنذاك، خاصة أنَّ برزة البلد تقع في خاصرة العاصمة دمشق ذات الطابع العمراني المتميّز.
كانت مهمة ورشة العمل هو الحصول على معلومات شاملة عن السكان وأحوالهم البيئية والمعيشية والتعليمية ومصادر رزقهم الرئيس، وكان من الضرورة، تقصي بعض المعلومات الديموغرافية مع تسجيل ملاحظاتنا على نمط بناء المنزل وسعته وموقعه الجغرافي على خريطة توسع القرية.
تم تقسيم الطلاب إلى مجموعات مؤلفة من طالب وطالبة، وتحديد المساحة الواجب دراستها بانضباطٍ صارم، لأنَّ سكان هذه البلدة كانوا محافظين وبالوقت نفسه متواضعي الثقافة بسبب عملهم في مهنة الزراعة وتفشي الأمية في صفوفهم. لقد تمَّ تخصيص عدة أحياء متجاورة من قرية برزة كي تكون مسرحاً ميدانياً للقيام بدراسه من قبلي وبالمشاركة مع زميلة من الطالبات المنتسبات للدورة.
اقترحت يومها على الأساتذة المشرفين على المشروع، أنْ تكون ساعة الصفر بعد عدة أيام حتى يحلُّ شهر رمضان، وبذلك نتفادى إحراج السكان من تقديم الضيافة لنا، خاصة وأنَّ أبناء الريف الدمشقي أكثر كرماً من سواهم. وبالفعل لاقى اقتراحي الاستحسان بعد الحصول على رأي رئاسة الجامعة، وأخيراً تمت الموافقة على ذلك.
اليوم الأول
واجهتنا فيه بعض الصعوبات، لأننا احتجنا أن نطلب من مختار البلدة أن يقنع بعض الأهالي بالإجابة على أسئلتنا لأنَّ بعضهم خالوا أننا في مهمة أمنية، خاصة أنَّ الأحداث التي كانت ترشح من دوائر النفوذ الحزبية، تفيد أنَّ هناك صراعاً بين أقطاب حزب البعث الحاكم.
ومن الطريف، أننا فوجئنا بدورية من شرطة البلدة تقتادنا – بغاية من اللطف غير المعهود في تلك الفترة- وذلك للتأكد من شخصيتينا، وطبيعة المهمة التي نقوم بها. ولما تمَّ سؤالنا هل نحن صائمون في رمضان؟ أجبناهم نعم، ولكن لم تتحرون عن ذلك؟ ردَّ علينا ضابط الشرطة مازحاً من يدخل مخفرنا نقدم له أحد ضيافتين، إما القيد في يديه وإيداعه النظارة، وإما نقدم له كأس شاي حورانيً (أي محلى بالسكر الزائد عن المألوف عند أهالي المدن الأخرى). وانتهى اليوم دون انجاز ما توقعنا أن نقوم به خلال الساعات السبع المخصصة لكل نهار.
اليوم الثاني
من أيام الورشة، كانت الزيارت سريعة وسهلة، لأنَّ أخبار هذه المهمة قد انتشرت بين الأهالي من خلال قيام أعضاء الفرق الأخرى في باقي الأحياء. أما المعلومات التي حصلنا عليها من مجموعة كبيرة من العائلات تحتوي على مفارقات لم نكن نتوقعها، وكان بعض هذه المعلومات يدعو للدهشة أحياناً وبعضها كان على قدر كبير من الطرافة التي لا تتسم بها عائلات العاصمة دمشق،
وبصراحة كانت تبدو أحوال الأهالي باختلاف نواحيها، تشير إلى أنَّ التطور الحضري يحتاج إلى عشرات السنين ليبلغ المقدار الذي عليه أبناء دمشق، وقد دوّنا هذه الملاحظة مع بيان أهم أسبابها ألا وهو إهمال الحكومة تحسين مستوى طاقم التدريس في مدارس برزة، وكذلك ضعف الخدمات العامة المقدمة للأهالي مما أدى إلى بقاء البنية التحتية ذات طابع ريفي يتعثر في اللحاق بالمعاصرة.
اللغز المحيّر
وكان أطرف مفاجأة واجهتنا خلال أيام تنفيذ المهمة، هي الحصول على معلومات انترو-بيولوجية مثيرة وفريدة تخصُّ أسر ثلاث تعيش في قرية برزة. وإليكم تلخيص هذه القصة:بعد أن طرقنا باب أحد البيوت، هرع عدة أطفال ليفتحوا لنا الباب. يا إلهي… الشعر ذهبي اللون والعيون زرقاء صافية والسحنات لا تشبه باقي أبناء العائلات المجاورة لهم في هذه البلدة.قلت لزميلتي، سيكون لنا فرصة نادرة للتعرف من أين جاءت هذه البصمة الجمالية المتميزة!
استقبلنا جدُّ الأسرة وهو في الخامسة والثمانين من عمره. كان وجهه أسمر اللون متغضناً بحكم الشيخوخة وشظف الحياة. أما عيناه كانتا سوداوتين،و سحنته تدل على أنه عربي مائة بالمائة.
قدم لنا برحابة صدر واسعة، و باستفاضة صريحة كماً كبيراً من المعلومات التي طلبناها، ومن بينها قدم نفسه بأنه أحد رجال الثورة السورية ضد الاحتلال الإنجليزي، ومن بعده الفرنسي. كم كنت مسروراً عندما أعطاني هذه المعلومة. لقد كانت مفتاحأ صالحاً للغوص في تاريخ هذا المناضل البطل، ومعرفة المزيد من الأحداث يرويها شاهد عيانْ، وبالتالي رأيت أنَّ استرساله بالحديث عن خصوصياته يمنحني إمكانية سؤاله عن سبب وجود بصمة شقراء وعيون زرقاء عند أحفاده المتحلقين حولنا؟
غزو جاهلي في زمن معاصر
وكانت المفاجأة عندما سرد هذه سرَّ هذا الأمر المحيِّر :
“كنا ثلاثة من شباب برزة، في أعمار يافعة، نقوم بمباغتة دوريات الإنجليز وقتلهم للاستفادة من سلاحهم والأموال التي بحوزتهم.
وفي إحدى الغزوات، وضعنا خطة للسطو على قطار يمرّ بالقرب من بلدتنا، وبعد رصد التوقيت وتحديد مكان العمليّة بعيداً عن أعين الجميع في المحطة، كان من نصيبنا القطار الذي تستقله عائلات انجليزية مع ضابط برفقتهم، ولما توقفوا في محطة القطار التي كنا قد رصدناها جيداً خوفاً من تبدل تحركات العدو.
استطعنا يومها سلب المؤونة وسلاح الضابط وبعض الجنود الموزعين في الفركونات (أي الحافلات التي يجرها محرك القطار)، وكان أثمن صيد هو ثلاثة نساء انجليزيات، تمَّ أسرهنَّ بعد قتل الذكور من الإنكليز، واقتدناهم إلى بيوتنا سراً، وبعد مدة قليلة اتخذناهن زوجات لنا كي ننهي حياة العزوبية.
عاشت هذه النساء معنا كأسيرات بالخفاء لسنوات دون أن يعلم الإنكليز بمكانهن، و أنجبت كل واحدة ولدين بين ذكور وإناث، حتى تم فك أسرهن بعد افتضاح أمرهنَّ من قبل الفرنسيين عندما حلوا أراضينا بعد التفاهم مع الإنكليز.
وقد جرت مفاوضات عسيرة بين الوجهاء الذين يمثلوننا وبين الضابط الفرنسي الذ أصر على تلبية رغبة الأمهات بأخذهن معهن. لكنَّ شرف الأبوَّة انتصر في النهاية وتركوا بذرتنا في رعايتنا وكانت أعمار البكور منهم أكثر من ثلاثة سنوات بأشهر. وأعتقنا زوجاتنا لوجه الله تعالى.
لذلك أحفادنا وأطفال الجيل الثاني لخلفتنا نحن الثوار الثلاثة، يغلب عليهم لون الشعر الأشقر والعيون الملونة بحكم الوراثة من الأمهات الجدات”.
وداع بطل القصة
كنت أتوق إلى مزيد من القصص التي يندر سماع مثلاً لها، لكنَّ توقيت المهمة استحوذ على تمنياتي وكان لا بد من المغادرة,
ودعنا هذا الرجل بعد أنْ روى لنا قصة (زواج قسري بعد السبي) على سنّة الموروث الجاهلي المليء بحكايات الغزو من أجل السلب والنهب وأسر النساء ليتحولوا من سيدات إلى إماء. ورغم أننا كنا نعيش في القرن العشرين، قلنا لأنفسنا “لله في خلقه شؤون“.