استهلال
في عام 1999، خلال الدورة الثلاثين للمؤتمر العام لليونسكو التي عقدت في باريس، أعلنت عن تحديد يوم 21 مارس من كل عام يومًا عالمياً للشعر. جاء تاريخ هذا القرار -مصادفةً- مطابقاً لتاريخ ولادة الشاعر السوري نزار قباني الذي ولد في 21/آذار/1932. لقد ابتهج شعراء العالم بتكريمهم في هذا القرار الأممي، ما عدا شاعرنا نزار الذي كان قد فارق الحياة في 30/نيسان/1998 وعمره (75 سنة)، تاركاً لنا 35 ديواناً وكتاباً، بلغت ذروة أجمل ما قدمه شعراء تلك الفترة.
وإحتفاءً بذكرى وفاة هذا الشاعر التي ستأتي بعد أيام،
ووفاءً لوطنيَّته ونضاله السياسيَّ الذي تجلى في صياغة العشرات من القصائد التي أصبحت من نواميس العروبة -بلا منازع-، توجب علينا أن نتعرض إلى سرد بعض التفاصيل التي لم تنتشر -سابقاً- إلا بين الخاصة الذين دأبوا على اقتفاء أثر هذا الشاعر الألمعِّي.
نبذة عن سنواته المبكرة
وُلد نزار لأبٍ دمشقّي اسمه “توفيق قباني” يقطن في حي مئذنة الشحم، وهو أحد الأحياء القديمة المشهورة ببيوتها الأثرية التي تعبق أفنيتها برائحة الياسمين، والنارنج، وزهرات الفلّ الأبيض.
كان توفيق صاحب محلٍ لصناعة المُلَبَّس الدمشقي (لوزةٌ أَو نحوُها تُغَشَّى بطبقةٍ يابسة من الحلوى)، لم يَكُنْ بورجوازياً كما شاع عنه، بل كان رجلاً ميسور الحال. أما والدة نزار “فائزه آقبيق”، كانت سليلة عائلة من أصول تركية من مدينة بورصة، استوطنت في دمشق منذ القرن الثامن عشر. وقد جاء نزار على ذكرها في مذكراته بأنه تربى لصيقاً في حضنها إلى أن بلغ سنّ الثانية عشرة.
يقول من عرف هذه العائلة عن قرب في تلك الفترة، أنَّ والدته قد أرضعته حتى بلغ الست أو السبع سنوات، وبقيت تُطعِمه بيدها إلى أن بلغ سن الثالثة عشر. كانت تعامله كابن وحيد لها رغم أنها أنجبت معه ثلاثة أشقاء ذكور وأختان أيضاً.
ترعرع نزار في بيت دمشقي، وصفه بأنه “قارورة عطر دمشقي”، وكان يتلذذ في الجلوس بين العُليَّة والحرملك والسلملك والموزاييك والبحر ة والورود بكل أنواعها وألوانها.
في طفولته، كان يميل إلى فنِّ الرسم والموسيقى، ولم يكن للشعر حيزاً واضحاً في شخصيته المبكرة. تعلمَّ العزف على العود وآلات موسيقية أخرى. وكان يرسم كثيراً. لكنْ فيما بعد، هجر تلك الهوايات عندما تغلبَّ عليه ولعَه -الذي استجدَّ- بالشعر.
وقد ورد في مذكراته، أنه ورث من والده “توفيق”، ميله نحو الشعر كما ورث عن أجداده (أبو خليل القباني) حبه للفن بمختلف أشكاله. يقول في مذكراته أيضاً، أنه خلال طفولته كان يحبّ الرسم ولذلك وجد نفسه بين الخامسة والثانية عشرة من عمره غارقًا في بحر من الألوان، وأنَّ سِرّ مَحبّته للألوان -خاصة الأخضر- وألوان الزهور التي تربى معها في بيته الدمشقي.
وكأي فتىً يافعاً -ما بين سن الخامسة عشر والسادسة عشر – كان متحيّراً من أين سيبدأ؟ ولكونه تتلمذ على يد خطّاط يستعمل القصبة في كتابة الخطوط الجميلة، إضافة إلى حبه للرسم بالألوان -ولهذا أطلق على أحد دواوينه عنوان الرسم بالكلمات-، لكنه هجر كل تلك الهوايات عندما تفرَّغ للتحضير للشهادة الثانوية.
وبعدها رسا على قراءة الشعر بنهمٍ شديد، وعاش مع قصائد عمر بن أبي ربيعة، وجميل بثينة، وطرفة ابن العبد، وقيس بن الملوح. واتخذ الشاعر خليل مردم بِك هَدْياً له، ليعلمه أصول النحو والصرف والبديع.
رشح عن الذين عَرفوا نزار في طفولته، أنَّ والده لم يكن له الدور الكبير في تنشئته، و إنما الدور الأكبر كان لوالدته التي كان متعلقاً بها جداً، وقد تحدث وكتب عنها كثيراً، مما حدا البعض أن يصفوه بأنه مصاباً بعقده أوديب. وأضافوا أنَّ شخصيته كانت (ثنائية) ذات وجهين:
- الأول، نزار الذي تربَّى على الدلالِ والدِعَة والخَجل عند مقارعة منتقديه وأعدائه.
- والوجه الثاني، نزار الوطني الثائر الأكثر شجاعة بين أقرانه من الشعراء. وقد صرحت ابنته “هدباء” -التي رعته في ذيل عمره- بأنه لم يكن شجاعاً إلا على الورق (أي في شِعره)، وفي الوقت نفسه كان إنساناً عادياً يتملكه الخوف ككل البشر الأسوياء.
مرحلة الدراسة
قضى نزار دراسته الابتدائية حتى الثانوية في الكلية العلمية بدمشق(وهي مدرسة خاصة يؤمها أبناء النخبة الدمشقيين)، وبعدها انتسب إلى كلية الحقوق في زمن الانتداب الفرنسي لسوريَّة، وكان تخرجه منها في عام 1945.
وفي هذه المرحلة كانت حكومة الانتداب تفرض تعليم اللغة الفرنسية بإتقان بالتوازي مع العربية، تطبيقاً لمبدأ الفرانكوفونية السائد آنذاك. كما بدأ بدراسة اللغة الإنكليزية، أيضاً، في تلك الفترة. وهذا ما جعل لدى نزار إمكانية الإطلاع -بلغة الأم- على الأدب الأوروبي بتمعن ودراية فائقة. وقد واظب على قراءة الأدب والشعر باللغات الثلاث التي يتقنها حتى آخر يوم من حياته.
لقد تفتحت آفاقه على حضارات الغرب التي وجد فيها مساحات واسعة، يُمكن في حال تطبيقها على المجتمع العربي -خاصة السوري- أن تنهض بالوعي المجتمعي الراكد -بحالة سكونيَّة- منذ قرابة ألف عام مضى.
أول مأساة في حياة نزار الطفل
الكاتب المصري “عادل حمودة”، خلال حلقة برنامج “واجه الحقيقة”، عبر فضائية “القاهرة الإخبارية”، كان أول من حدد تاريخ هذه المأساة التي شاعت كثيراً بدون تحديد تاريخها، حيث قال:
أنَّ شقيقته “وصال” انتحرت بعد أن أُجبرت على الزواج من رجل يكبرها بالعمر، مشيرًا إلى أن نزار قال إن “شقيقته كانت تحب شابًا يريد أن يتزوجها لكن العائلة لم توافق عليه لضعف مستواه المادي، ولكن العائلة أجبرتها على الزواج من رجل يكبرها بالعمر فانتحرت، وكان ذلك عام 1938” -أي أنَّ عمر نزار كان خمسة عشر عاماً-.
وهذا الحدث ترك أثرًا عميقًا في نفس نزار، وربَّما ساعد في صياغة فلسفته العشقيّة لاحقاً ومناصرته للمرأة في صراعها لتحقيق ذاتها وأنوثتها. ولم يكتشف حقيقة موت أخته باكرًا، بل قيل -آنذاك- أنها توفيت بمرض القلب، إلا أن صديقته المفضلة الأديبة “كوليت خوري” كشفت له قصة الإنتحار، وهو ما ثبت لاحقًا في مذكراته الخاصة، إذ كتب:
“إن الحبّ في العالم العربي سجين وأنا أريد تحريره”.
يصف نزار حادثة الإنتحار بقوله:
«صورة أختي وهي تموت من أجل الحُبّ محفورة في لحمي… كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدويّة».
كيف تلبسه جِنُّ وادي عبقر؟
حدث ميلاده الشعري وهو في السادسة عشر من عمره، عندما كان طالباً. سافر سنة 1939 في رحلة بحرية الى روما مع المدرسة. كان يركب أمواج البحر لأول مرة، وأثناء وقوفه على سطح السفينة، يتأمل الأمواج وسرباً من الدلافين تلاحق السفينة، جاءه مَسٌّ وكأنه قَدِمَ إليه من جِنِّ شعراء وادي عبقر!
كان يُعتقد أن وادي عبقر، وهو وادي يقع في شبه الجزيرة العربية، موطنًا لشعراء الجن. ووفقًا للأساطير العربية، كان شعراء الجن يتمتعون بموهبة شعرية استثنائية، وكانوا مصدر إلهام لكثير من كبار شعراء العرب في العصر الجاهلي، مثل امرؤ القيس والنابغة الذبياني.
وفجأة، وجد نزار نفسه يصوغ بيتاً من الشعر ولحقه الثاني والثالث الرابع..وهكذا. فهبط نازلاً إلى مقصورته سريعاً، ليكتب تلك الأبيات الشعريَّة قبل أنْ ينساها ولا تضيع.
كتم هذا السر عن أصحابه خشية سخريتهم. ثم غطَّ في نوم عميق إلى أن طلعت شمس صباح يوم 15 آب 1939 ليدخل بوابة الشعر دون أن يدري أنها ستكون قدره يوماً ما.
ولا عجب أنْ ينشر نزار ديوانه الشعري الأول “قالت لي السمراء” قبل أن يُدرك سنّ العشرين، يتأبط بديوانه باليمنى ومحاضراته في القانون باليسرى، ويدفع من مصروفه الخاص -وهو الطالب- الذي تأجج ابداعه بوقت مبكر جداً.
وقد أثار هذا الشعر الذي اتصف بالحداثة والجرأة، التي خلقت جدلاً عنيفاً في مجتمع محافظ لم يتأمل كفاية في عمق مشاعر نزار، بل تفاعلوا بالعبارات الجريئة التي كانت لا تقال إلا همساً في غرف النوم. لذلك وصفهم نزار في ما بعد فقال:
“لقد هاجموني بشراسة وحش مطعون, وكان لحمي يومئذ طرياً”.
فهل يستحسنُ رجال تلك الفترة أن ينتقد سلوكهم شاعر لم يبلغ العشرين من عمره، من خلال قصيدة “خبز وحشيش وقمر”؟
في الحقيقة هلْلَّ البعض لهذا النقد، وآخرون كُثر طالبوا برأسِ قائلها.
من الأمثلة عن تأثير شعر نزار في الحياة الاجتماعية والسياسية السورية في فترة الأربعينات من القرن الماضي، أنَّ ديوانه “طفوله نهد” الذي صدر عام 1948، نوقش في البرلمان السوري فيما إذا كان هذا الشعر يدعو الى الانحلال؟ بالطبع، الديمقراطية السائدة آنذاك لم تمنع نشر الديوان، ولم يتم جَلْد أو صلب الشاعر نزار كما طالب بذلك العوام. واستمرت مسيرة نزار تؤسس لضرورة تحرير المرأة وتكريم أنوثتها.
العمل الوظيفي
بعد أن تخرج من كلية الحقوق عام 1945، اختار نزار أنْ يعمل في السلك الديبلوماسي كموظف في وزارة الخارجيَّة السورية. ولمّا كان العمل الدبلوماسي محفوفاً بالتنقّل من سفارة إلى أخرى، لم تطل إقامة نزار في البلدان التي مثَّل فيها سوريَّة بمنصب السفير.
- في نفس عام تخرجه (1945) عُيّن في السفارة السوريّة في مصر وله من العمر 22 عامًا.
- انتقل بعدها في عام 1952 ليكون سفيرًا لسوريَّة في بريطانيا لمدة سنتين – وخلالها أكمل اتقان اللغة الإنجليزية-.
- وبعدها أصبح سفيرًا في أنقرة.
- ومن ثمّ عيّن سفيرًا لسوريَّة في الصين في عام 1958 لمدة عامين.
- ثمَّ سفيرًا لسوريَّة في مدريد في عام 1962 لمدة 4 سنوات.
ولما دبَّ به الملل والتعب من التنقل بين العواصم، وغَلبَه شَغَفه بالشعر والنثر، قرر في عام 1966, أنْ يستقرَّ في لبنان كي يتفرغ للأدب. أسس داراً للنشر خاصة به أسماها «منشورات نزار قباني». وبدأ يهتم بكتابة الشعر العمودي، ومن ثمَّ انتقل إلى شعر التفعيلة، منتهجاً أسلوبه الخاص ليساهم في تطوير الشعر العربي الحديث إلى حد كبير.
لقد أودع في دواوينه الأربعة الأولى قصائده الرومانسيَّة التي تناولت -في معظمها- قضية إخراج المرأة من القمقم الذكوري الحبيسة فيه منذ أكثر من ألف سنت خلت. ولكنَّ الأحداث السياسية التي سادت تلك الفترة، استطاعت أن تجرفه بإتجاه اطلاق مارده الشعري المكنون في وجدانه الوطني.
الشعر السياسي
كانت نكسة العرب في حرب حزيران 1967، مفصلاً في حياة نزار جعله يتحوّل نحو الشعر السياسي. وبإحساسه الوطني الجارف، أبدع صياغة العديد من القصائد النقديَّة اللاذعة ضدَّ الأنظمة العربية الحاكمة عموماً -خاصة التركيز على وَصْمِ حكم البعث في سوريَّة بالخيانة- وتجلى ذلك في بعض القصائد التي أبهرت المواطن العربي، ومن هذه القصائد (هوامش على دفتر النكسة)، و(يوميات سياف عربي) و (عنترة) وتتويجها -فيما بعد- بمرثاة زوجته (على عرش بلقيس).
وقبل أن نَعرُج َعلى استعراض آثاره الشعريَّة، لابدَّ أن نضيء على بعض المراحل الهامة من حياته الخاصة بما فيها من سلبيات وايجابيات أثرت على مساحة الإبداع الشعري.
حياته الزوجية
بعد سنوات من عمله في السلك الدبلوماسي، تزوَّج نزار من ابنة خاله السيدة “زهراء أقبيق“. وأنجبت له ابنه توفيق وابنته هدباء. وقد ترافقت هذه الفترة مع مرحلة البدء في انتشار شهرته بشكل مضطرد وسريع،حيث أصبح يتلقى -يومياً- عشرات، وحتى مئات الرسائل من المعجبات، بَعضهنَّ يتصلن به شخصياً، مما أدى إلى إثارة الغيرة عند زوجته “زهراء -سيدة البيت” التي كانت من بيئة اجتماعية محافظة “شامية تقليدية”. فكيف لا تغار عليه ونزار زوجها كان وسمياً، أنيقاً، رشيقاً، ورقيقاً. وباتت لا تقوى على تحملِّ أن يكون هناك من يشاركها نزار. فأصبحت تُخفي عنه رسائل المعجبات به أو بشعره. وعندما تفاقمت غيرتها، لم يكن هناك ثمة مَفَرٍ من صدام شخصي بينهما، أدى إلى أن طلَّقَها نزار بالحسنى.
وبعدها -في عقد الخمسينات- ارتبط نزار بعلاقة كانت مجمدة من الماضي مع الأديبة اليافعة “كوليت سهيل خوري” التي كانت حفيدة رئيس الوزراء السوري الأسبق “فارس الخوري”. وكانت خلال فترة انقطاع نزار عنها بسبب زواجه من “زهرة” قد تزوجت “كوليت” وتطلقت من الموسيقار الإسباني “رودريغو دي زياس”، وهو حفيد الدبلوماسي الأمريكي “فرانسيس بورتون هاريسون” ونجل الفنان المكسيكي “ماريوس دي زياس”. وأنجبت كوليت ابنة، وحيدة اسمها “مرسيدس نارا دي زياس خوري”. كانت علاقة كوليت مع نزار مصدر إلهام لها أودعته في روايتها “أيام معه” التي نشرت في عام 1961. وقد اشترى هذه الرواية المنتج السينمائي السوري “صبحي فرحات” لإنتاجها فيلماً سينمائياً، كان يجسِّد حبَّ نزار لها من خلال بطل تلك الرواية.
زواج نزار الثاني
التقى نزار “بلقيس” للمرة الأولى في حفل استقبال بسيط في إحدى السفارات العربيَّة في بيروت. تقدم نزار لخطبة بلقيس لأول مرة عام 1962, لكن عائلتها رفضت لأن صيت نزار لم يرُق لهم لأنه شاعر النساء والغزل والحب, ولم تأمن العائلة على سلامة ابنتها عندما تقترن برجل كل شعره عن النساء.
ولما كان نزار ما زال يعاني من أزمة فقدان ابنه “توفيق” عام 1973، الذي كان طالبًا بكلية طب جامعة القاهرة في السنة الخامسة، وهو لا يزال في الثانية والعشرين من عمره، عندما توفيَّ عقب عملية جراحية للقلب في لندن، الذي ترك الأثر الكبير في حياة نزار، وقد نعاه بقصيدة “الأمير الخرافي توفيق قباني“.
وجاءت أزمته الثانية عندما توفيّت مطلقته الأولى في 2007 عام. وكانت ابنته الوحيدة “هدباء” قد تزوجت وانتقلت لتعيش مع زوجها في دولة خليجية. أصبح نزار يعاني من الوحدة، عندما التقى “بلقيس“.
لم يكن نزار يعلم أنه سيتعلق بها أو أنْ يهيم بها كمجنون ليلى. لذلك، ظلَّ -نزار- يلاحقها بإصرارٍ شديدٍ مدة سبع سنوات متتابعة. وكانت بلقيس تعارض رفض أهلها لنزار لأنه دخل في قلبها. كانت ترفض خلال تلك السنوات أشخاصاً عديدين لأنها حب نزار على الرغم من رأي أهلها لأنه يكبرها كثيرا, فهي لم تتجاوز 23 عاما, وهو في سن الأربعين.
ولكن نزار عاود الكرَّة عام 1969, وحصل على الموافقة بعد أن توسط الرئيس العراقي “أحمد حسن البكر” مع عائلة بلقيس وأرسل وزيران لمرافقة نزار لطلبها مجدداً، وهكذا تزوجا وعاشا معاً بسعادة عارمة في بيروت, وأنجبا “زينب” و “عمر”.
مأساة نزار الثانية
وبعد أنْ نَعِمَ نزار مع بلقيس بحب عميق لا تشوبه شائبة، ولا تعكّر صفوه الأيام، حتى جاء اليوم المشؤوم الذي فقد فيه نزار أغلى شخص في حياته. فقد أردى حادث انفجار دمر َّ السفارة العراقية في بيروت بحياة بلقيس عام 1981 لتغيب عن نزار إلى الأبد.
وفي صمت جلل الموت المفجع، صاحت حنجرة نزار -وقد جن جنونه-:
"سأقول في التحقيق.. أنِّي قد عرفت القاتلين.. بلقيس..يافرسي الجميلة..إنني من كل تاريخي خجول هذي بلاد يقتلون بها الخيول.. سأقول في التحقيق: كيف أميرتي اغتصبت.. وكيف تقاسموا الشعر الذي يجري كأنهار الذهب سأقول كيف استنزفوا دمها.. وكيف استملكوا فمها..فما تركوا به وردا ولا تركوا به عنبا.. هل موت بلقيس..هو النصر الوحيد في تاريخ كل العرب؟"
وبكاها نزار بمرارة بعد أنْ جَرَعا سويةً الهناءات والمسرات خلال اثنى عشر عاماً من التنعّم بالراحة والسكينة,. ودخل مجدداً في عزلةٍ روحيةٍ كي يرعى زينب وعمر,. أصبح يغلق باب سكنه كلما غربت الشمس، يطوف الكون بخياله علَّه يلتقي مع طيف بلقيس.
اللغز الذي عرفه نزار متأخراً
يقول نزار قباني:
عندما رجعنا من الجنازة إلى مكتب أبي عمار (الرئيس ياسر عرفات)، بدأ القائد الفلسطيني يتكلم عن بلقيس الراوي وبدأ اللغز ينكشف، عندما قال لي عرفات: في آذار 1968 ، وكنا خارجين من معركة الكرامة، جائتني إلى منطقة الأغوار في الأردن فتاة عراقية فارعة القامة، تجر وراءها ضفيرتين ذهبيتين ,وطلبت مع زميلاتها في ثانوية الأعظمية للبنات في بغداد، تدريبهن على حمل السلاح، وقبولهن مقاتلات في صفوف الثورة الفلسطينية, وبالفعل أعطينا الفتيات العراقيات، ومن بينهن بلقيس، بنادق، وأخذناهن إلى ساحة الرمي حيث تعلمن إطلاق الرصاص، وأساليب القتال. كانت الفتيات سعيدات بملامسة السلاح، وكنا سعداء بأن تنضم إلى الثورة الفلسطينية هذه الزهرات من أرض العراق.
لمحات هامة من حياة نزار قبل المفارقة الأبديَّة
مجانبة للأحاديث المتواترة -على اختلاف غاياتها- عن هذا الشاعر، وتوخياً لنقل الحقيقة مباشرة عن السيدة “هدباء بنت نزار قباني” التي أفاضت بالإخبار عن أهم المراحل في حياة أبيها من خلال المقابلة التي أجرتها “العربية.نت”، وكذلك في مناسبات أخرى.مع العلم بأنَّ هدباء قد لازمت رعاية والدها في “سنوات المنفى الإختيارية التسع اللندنية” كما يستحسن نزار تسميتها.
بعد رحيله عن لبنان
بعد أنْ قُتلت بلقيس في فترة الحرب الأهلية في لبنان، اضطر نزار للإقامة في البلد الذي أحبه كثيراً “مصر “. وهناك في عام 1983 كتب الشاعر قصيدة يستنكر فيها إقدام الرئيس أنور السادات على تورطه بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل. وقد وُجِهَت هذه القصيدة بهجوم عنيف من رجال الإعلام المصري الموالين للسادات. وقد دامت تلك الحملة مدة تجاوزت السنة، لم يكن إلى جانب نزار سوى قلة من القامات الإعلامية المصريَّة (محمد حسنين هيكل -أحمد بهاء الدين – يوسف ادريس …). لذلك قرر نزار الانتقال إلى سويسرا عام 1984 . ولم يطب العيش له سوى خمس سنوات، حيث غادرها كي يقيم في لندن عام 1989. وقضى هناك تسعة إلى أن وافته المنيَّة.
اصراره عدم الرجوع إلى سوريَّة
تؤكد السيدة هدباء أنَّ والدها كان يستشرف أنه لو عاد إلى سورية لن يتمكن من الكتابة. وقد استشهدت بقول والدها مبرراً بتجربته عندما اختار لبنان سابقاً:
“عدت إلى بلد لا يضربني على أصابعي عندما أكتب.”
كان نزار يكره الرقابة كثيراً، وهناك صحف كتب لها مثل الأسبوع العربي أو المستقبل أو الحياة إذا قالوا له سنحذف كلمة واحدة كان يرفض نشر المقال.
أما الأسباب التي دفعته للرحيل إلى أوروبا كثيرة منها:
- غياب بيروت عن ساحة خياراته بعد أن كانت خياره الأول والأخير.
- الهجوم المصري عليه الذي حرمه من مصر كبديل عن لبنان.
- اخياره لندن أخيراً بسبب بحثه عن حرية الكتابة، وتوفير الأمان لأولاده عمر وزينب فضلاً عن وجود هدباء في لندن.
- لم ينقطع نزار عن زيارة لبنان بهدف نشر أعماله في بيروت عبر دار النشر التي ما زالت قائمة حتى اليوم.
بعد بلقيس جاءت بداية التصوف
قالت هدباء:
لم يحب والدي بعد بقليس، لكن نزار الذي أحب المرأة لم يَنتَهِ، ولكن انتهت مرحلة وأقفل عليها وبدأت مرحلة تأمل وتفرغ للأولاد والأحفاد، وكان سعيدا في عالمه الجديد الفكري التأملي، و لم تكن هناك امرأة في حياته بعد بلقيس، حتى هاتفه لم يعطه لأحد، وعلاقته مع الكثيرين كانت تتم من خلالي.
كان نزار قارئا نهما في تلك الفترة وأبرز الكتب التي كانت قريبة إلى قلبه أشعار المتنبي ومحمود درويش وأدونيس وأنسي الحاج والشعر الفرنسي الحديث وخاصة أعمال بودلير. وقال لابنته ذات يوم: أديت رسالتي 50 سنة كتبت وأعطيت أحاديث والآن أريد نوعا من التصوف. وتضيف “كان القرآن كتابه المفضل ويؤمن به ويحبه ومعجب بإعجاز اللغة العربية”.
لقطات من حياة نزار في لندن
تقول هدباء:
والدي كان يحب البقاء في البيت (بيتوتي كما يقال بالعامية) وحياته الشعر والترتيب والقراءة والكتابة. يستحم ويخرج من غرفة إلى غرفة بكامل أناقته متوجها إلى مكتبه ليستمع للموسيقى الكلاسيكية ويضع ورقا أبيض ثم يشرب قهوته ويتفرغ للورقة البيضاء ويعتبر أنه يجب أن يعمل بدون كلل.
كان يجلس وراء مكتبه من العاشرة صباحا حتى الواحدة ظهرا، ثم يتناول طعام الغداء وينام حتى الرابعة ظهرا وبعد ذلك في السابعة أو الثامنة مساء تأتي فترة القراءة للشعر العربي والأوروبي المترجم.
لم يكن والدي اجتماعيا، ولم يكن يذهب لرؤية أحد في الجاليات العربية أو غيرها واقتصر خروجه على حضور الأنشطة الفكرية أو أمسيات مشتركة أو استقبال اصدقاء مثل أدونيس ومحمود درويش وبلند الحيدري وعبد الرحمن منيف والعراقي الربيعي أثناء زيارتهم لندن.
كان نزار محباً للحدائق البريطانية ودائم الزيارة لها ويقول إنها من إعجاز الله، وذات يوم قال لابنته :
“انظروا إلى الديمقراطية وكيف أعطوا للناس الحيز الكبير من المساحات من حدائق عامة حتى تستمتع الناس”.
قصيدة لندنيَّة على كيس ورق
كتب نزار إحدى قصائده على كيس أدوية من الورق كان بجانب سريره، وحاول تأسيس حزب شعري مختلف عن الأحزاب العربية. جمعته رفقة يومية بفنجان قهوته قبل أن يدخل مكتبه الكائن في منزله والانطلاق في رحلة الكتابة.
كانت أغنية عبد الحليم حافظ “قارئة الفنجان” الأحب إلى قلبه كما كانت قصيدته نهر الأحزان الأجمل بنظره، و”قصيدة” و “خبز وحشيش وقمر” و “متى يعلنون وفاة العرب”.
وأحب لقاءاته وجلساته كانت مع أدونيس ومحمود درويش.
حلمٌ لم يتحقق “حزب شعري”
كانت أكثر القصائد السياسية ذات تأثيرٍ كبير في رفع مستوى وعي المجتمع العربي لمفهوم الحرية والكرامة وحقوق المواطنة ومشروعية التصدي للطغيان والاستبداد، تلك التي كتبها نزار في منفاه الاختياري:
- “متى يعلنون وفاة العرب”.
- “أطفال الحجارة”.
- “المهرولون”.
- “قمعستان”.
- “السياف العربي”.
كان يقول لابنته: شعري السياسي ضد من هدم الوطن ولكني أكتب بحب وأهدم حتى أبني.
أما قصيدة “حزب المطر”، أراد نزار القول: أنها تمطر في لندن، ولكنه مطر يحمل معه حرية تتيح لي الكتابة في كل وقت بينما في البلاد الثانية الشمس ساطعة بلا حرية فمن يلحق بي لنؤسس حزب المطر؟
وبالفعل، وصلته اتصالات كثيرة للانضمام إلى حزب المطر.
هدباء قباني أشارت إلى وجود قصائد لوالدها لم تنشر بعد وهي قصائد في الحب والوطن مشددة على أن عائلته لا تريد التجارة بأدبه ولكنها عازمة على نشرها في الوقت المناسب.
أيام نزار الأخيرة
كانت أيام الأشهر الثماني الأخيرة في حياته في عام 1998 مكتنفة بالمرض والمعاناة إثر ذبحة قلبية لم يتعافَ منها، حيث كان يحتاج لجراحة ثانية بعد الجراحة التي أجراها قبل 15 سنة وكان يعرف ذلك ولكن لم يكن جسده يحتمل إجراء جراحة أخرى.
في تلك الأشهر الثمانية كان قلم نزار عصياً على الانكسار واستمر في نزيف مشاعره على أوراقه جانب سريره، حتى أخذتها هدباء بعيداً عنه قبل ثلاثة أشهر من وفاته. وهذا ما اضطره خلال تلك الفترة كي يستعمل كيس الأدوية للكتابة.
زعيم عربي أراد عيادته
كانت هدباء تتمسك بطلب والدها إليها: ” إذا وقع أي شئ عليّ احميني” . لذلك كانت حريصة بأن منعت كل الزيارات على أبيها وهو في المشفى. وخلال تلك الفترة، اتصل السفير الأردني وقال إنَّ جلالة الملك حسين يريد رؤية نزار والاطمئنان عليه. فاعتذرت بلطف “أرجوكم.. ليست لديه القدرة على استقبال أحد”. وقد عاده أثناء مرضه كل من محمد حسنين هيكل، ومحمود درويش وبعض الخاصة من أصدقائه.
المتطرفون يلاحقونه
كان نزار يتمنى الصوم في شهر رمضان. ولم يسمح وضعه الصحي بأنْ يمارس هذه الشعيرة.
كان يقول شعري هو صلاتي وشعري هذا كله من الله وأنا عاجز أن أعمل شيئاً دون الله.
أما الارهاصات التي حدثت من قبل إسلاميين متطرفين لمنع الصلاة على جثمان الفقيد نزار في أحد مساجد لندن، كانت صحيحة. ولكن شاعت مع الكثير من المبالغات التي تجانب الحقيقة تجانب الحقيقة.
ولكن جاء تصريح هدباء في مقال الإعلامية هالة حمصي بتاريخ 06/حزيران/ 2018 في جريدة النهار، يُصَوِّب كل الشائعات :
‘حينما ذهبنا للصلاة على روح أبي، اعتبرنا الأمر مفروغاً منه؛ أن يدخل الرجال إلى الجامع ليصلوا عليه، وأن نقف نحن في الباحة ونتقبّل التعازي به. حاول البعض منعنا بدعوى أن هناك أناسا مشاغبين حاولوا منع الصلاة على أبي. وهذه شكّلت سابقة، لأنه بعدما استاء الناس، حملنا الشكوى إلى مدير الجامع. قال إن هؤلاء يأتون دائما، والخوف من شغبهم جعلهم يستمرون في فعل ما يريدون، وصارت لديهم سلطة على كل ميت ويكفّرون من يكفّرون، وحصلت حوادث قبل والدي. لكن عندما كُتب عن حادثة أبي، حصل نقاش وانتبه الناس لإلى الأمر، وبعدها توفيت سيدة معروفة، فطالب البعض أن تقف عائلتها للتعزية بها أسوة بما حصل مع نزار قباني. لقد شجّع نزار، بحادثة موته هذه، امرأة مريضة أن تطلق حق التعزية بها. فقد أوصت بأن يقوم النساء والرجال بقبول التعازي بها. إذن كان نزار دائما يبدأ الأشياء، وحادثة موته أيضا انتهت بهذه الطريقة الصادمة’.
في الذكرى السادسة والعشرين على وفاته
بعد مرور تلك السنوات، ما زالت الأحداث التي تتالت فيها تؤكد أنَّ قصيدة نزار قارئة الفنجان، لم تكن هي الوحيدة في أعماله، بل كل قصائده الوطنية والسياسية كانت تقرأ فنجان سورية. وقد برهن نزار براعته في استشراف مستقبل الأمة العربية وكأنها قراءة فنجان القهوة الذي شرب منه كلُّ الحكام العرب على السواء.
رحم الله شاعرنا الذي كافح من أجل تحرير العقل العربي من الجهل والجاهلية.