استهلال
بعد سنواتٍ طويلةٍ من القمع والاستبداد في ظل حكم بشار الأسد، نجحت الثورة السورية أخيراً في إسقاط نظامه، لكن ليس بالطريقة التي كان يأملها الشعب. جاءت النهاية بمباركةٍ أمريكيةٍ وتركية، حيث مُنحَت هيئة تحرير الشام بقيادة “الجولاني” الضوء الأخضر لتقود فصائل ذات طبيعة إشكالية إلى جانب فصائل من المعارضة الوطنية، تحت شعار “سوريا الجديدة”، بهدف إنهاء هيمنة الأسد وحلفائه الإيرانيين.
في البداية، استقبل السوريون هذا التحول بفرحٍ حذر، ظنًّا منهم أن حقبة الاستبداد قد انتهت، لكن سرعان ما تبين أن ثمة استبداداً جديداً متخفياً وراء الأكمة. وخلال ثلاثة أشهر فقط، أعلن “الشرع” نفسه رئيساً لسوريا دون أي انتخاباتٍ شرعية، وكانت القاضية حين كشف النقاب عن دستورٍ جديدٍ لم يكن إلا وسيلةً لترسيخ الحكم الفردي، بدلاً من تأسيس ديمقراطية حقيقية.
“حيث تنتهي القوانين، يبدأ الطغيان”. – الفيلسوف البريطاني “جون لوك”.
تباً لكم فهذا ما حدث تماماً في سوريا الجديدة.
ولادة دستور يُشَرّع الاستبداد
عند النظر في نص الدستور الجديد، نجد أنه يتكون من أربعة أبواب أساسية، لكنها في جوهرها لم تكن سوى وسيلةٍ لتمكين “الشرع” وإحكام قبضته على الحكم:
- الباب الأول: المبادئ العامة للدولة – يحدد هوية الدولة كـ”دولة إسلامية”، مع الالتزام بالشريعة الإسلامية كمصدرٍ وحيد للتشريع، متجاهلاً التنوع الطائفي والإثني في سوريا.
- الباب الثاني: سلطات الحكم – يمنح الرئيس سلطاتٍ مطلقة، ويلغي منصب رئيس الوزراء، مما يجعل جميع القرارات السياسية والإدارية محصورةً بيده.
- الباب الثالث: الحقوق والواجبات – يتضمن نصوصاً فضفاضةً حول الحقوق والحريات، لكنها مقيدةٌ بعباراتٍ مثل “بما لا يخالف أحكام الشريعة“، مما يفتح الباب أمام قمع المعارضين تحت ذرائع دينية.
- الباب الرابع: المرحلة الانتقالية – يحدد فترة خمس سنوات “للانتقال إلى الديمقراطية”، لكنها تبدو مجرد غطاءٍ لتمديد حكم الفرد، دون أي ضماناتٍ حقيقيةٍ للتحول الديمقراطي.
“الدستور يجب أن يكون عقداً اجتماعياً يحمي الشعب من تغوّل السلطة، لا أن يمنحها شيكاً على بياض”. – الخبير القانوني د. وائل السويداني
المخالفات القانونية للدستور
منذ اللحظة الأولى، وصف الخبراء القانونيون هذا الدستور بأنه “إعادة إنتاج للاستبداد بغطاء ديني”، حيث تضمنت مواده العديد من المخالفات القانونية التي تتعارض مع المبادئ الدستورية الحديثة. ومنها:
- غياب الشرعية القانونية في عملية الإقرار: لم يتم استفتاء الشعب السوري على هذا الدستور، ولم تشارك أي هيئةٍ مستقلة في صياغته، مما يجعله فاقداً لأي شرعية.
- انعدام مبدأ الفصل بين السلطات: وهو أفدح سمات الاستبداد والديكتاتورية على الإطلاق.
“لا يوجد دستور ديمقراطي في العالم يدمج السلطات الثلاث بيد شخص واحد، فهذا نقيضٌ لمفهوم الدولة الحديثة”. – الفقيه الدستوري د. أنور الجندي.
- القيود على الحريات: حيث تم اشتراط أن تكون جميع الأنشطة السياسية متوافقةً مع “القيم الإسلامية”، وهو ما يعني -فعلياً- إجهاض مفهوم “العدل والمواطنة المتساوية”، بل يشكل قمعاً جائراً لأي تيارٍ معارض أو صاحب عقيدة أخرى تحت ذريعة عدم توافقه مع الشريعة.
من أبرز بنود الإعلان الدستوري في سوريا.. دين الرئيس واسم الدولة والفقه الإسلامي المصدر الأساسي للتشريع!
فأين هي المواطنة المتساوية إنْ تم إلغاء حق باقي الطوائف أنْ يأتي منها رئيساً؟
رئيس بصلاحيات مطلقة بلا محاسبة
أخطر ما في الدستور الجديد هو أنه يمنح الرئيس سلطاتٍ تنفيذيةٍ وتشريعيةٍ مطلقةٍ دون أي آليةٍ للرقابة أو المساءلة:
- إلغاء منصب رئيس الوزراء: مما يمنح الرئيس تحكماً كاملاً في الحكومة دون أي جهة تنفيذية مستقلة.
- عدم وجود آلياتٍ للمحاسبة: حيث لا يمكن للبرلمان – إن وجد أصلاً – مساءلة الرئيس أو عزله، مما يجعله فوق القانون.
- المدة الانتقالية مجرد ذريعة: على الرغم من تحديد فترة خمس سنوات “لإرساء الديمقراطية”، إلا أن هذا النص خالٍ من أي ضماناتٍ لتنفيذ هذا الانتقال فعلياً.
“الاستبداد نادراً ما يكون صريحاً، بل يتسلل متخفياً تحت ستار النظام والقانون”. – المؤرخ الفرنسي”ألكسيس دو توكفيل”.
تخوف السوريين من عودة الاستبداد
مع انتشار تفاصيل الدستور الجديد، ازدادت مخاوف السوريين من عودة الاستبداد، لكن هذه المرة بغطاء ديني. اعتبر الكثيرون أن البلاد تتجه نحو “إمارة إسلامية سلفية” تُقصي مكونات المجتمع الأخرى.
“أي نظامٍ يُقصي التنوع الاجتماعي والديني سيخلق اضطراباً لا يقل خطورةً عن استبداد الأسد”. – الباحث السياسي “سامي الحسن“.
الأمر الذي دفع البعض إلى التذكير بحديث النبي محمد ﷺ: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، وهو ما يؤكد أن الدين نفسه لا يفرض شكلاً معيناً للحكم، بل يترك الأمر للاجتهاد البشري وفق مصلحة المجتمع.
التعامل الفاشل مع الفلول البعثية وإثارة العنف
بدلاً من احتواء الفلول البعثية بطرقٍ سياسيةٍ وسلمية، اختارت السلطة الجديدة أسلوب القمع العسكري، مما أدى إلى تصعيد أعمال العنف في الساحل السوري. هذا النهج لم يكنْ إلا اجترارا لأسلوب الأسد في التعامل مع المعارضة، مما زاد من حالة الانقسام داخل المجتمع السوري.
“القوة العسكرية وحدها لا تكفي لإخماد بؤر التمرد، بل غالباً ما تؤدي إلى تأجيجها”. – المحلل العسكري “فادي كرم”
التأثير السلبي على إعادة الإعمار والاستقرار
نتيجةً لهذا الوضع السياسي المتأزم، باتت الدول الصديقة مترددةً في المشاركة في إعادة إعمار سوريا. فالشركات الدولية والمستثمرون يبحثون عن بيئةٍ مستقرةٍ ودستورٍ يضمن حقوقهم، وهو ما لا يوفره النظام الجديد.
“الاستثمار لا يأتي في ظل الغموض القانوني والاستبداد، بل يحتاج إلى بيئةٍ سياسيةٍ مستقرةٍ تحترم العقود والاتفاقيات”. – “عبد الكريم الشامي”.
إسرائيل تستغل الفوضى لتمدد نفوذها
في ظل الفوضى، لم تتردد إسرائيل في استغلال الموقف، فقامت بقضم المزيد من الأراضي السورية، مهددةً باحتلال دمشق إن لم تخضع الحكومة الجديدة لشروط “صفقة القرن” واتفاقيات التطبيع. والأخطر من ذلك أن حكومة “الشرع” لم تحرك ساكناً، ولم تقدم أي شكوى رسمية للأمم المتحدة.
“في السياسة الدولية، الفراغ لا يبقى فراغاً طويلاً، بل تملؤه القوى الطامعة”. – المحلل الجيوسياسي توماس فريدمان – صحيفة نيويورك تايمز.
أو ليس هذا ما حدث وما زال يحدث في سوريا تماماً.

وخلاصة القول:
في ظل هذه المعطيات، يبدو مستقبل سوريا معلّقاً بين مسارين متناقضين. فمن جهة، هناك مخاطر جدّية بأن ينزلق البلد مجدداً نحو الاستبداد والفوضى إذا استمرت السلطة الانتقالية في نهجها الحالي دون تصحيح – مما يعني تبديد تضحيات ملايين السوريين وتهديد وحدة البلاد واستقرارها. ومن جهة أخرى، لا يزال هناك هامش للأمل في تصويب المسار وإنقاذ العملية الانتقالية إذا توفرت الإرادة السياسية لذلك.
على القيادة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع أن تدرك أن الشرعية الحقيقية تُكتسب من الشعب وأن حكمها لن يستقر دون رضاه ومشاركته. ولعلّ الأصوات العالية المعارضة للدستور الجديد تشكل إنذاراً مبكراً يوجب الاستماع والتفاعل الإيجابي.
- يمكن للسلطة القائمة مثلاً إدخال تعديلات عاجلة على الإعلان الدستوري – حتى قبل صياغة الدستور الدائم – لضبط تركيز الصلاحيات وضمان قدر من التوازن، كأن يتم تشكيل مجلس تشريعي انتقالي موسع يضم مختلف القوى (بدلاً من ثلث معين فقط) ويكون قادراً على مراقبة الحكومة. كما يتعين فتح حوار حقيقي مع ممثلي الأكراد وباقي المكونات وإشراكهم في صنع القرارات الوطنية وصياغة الدستور القادم، بما يبدد مخاوفهم المشروعة من التهميش.
- إن تحقيق العدالة الانتقالية بشكل شفاف ومنصف هو مفتاح آخر للسلم الأهلي… فملاحقة مرتكبي الجرائم من كل الأطراف وتعويض الضحايا سيخلق مناخاً من الثقة ويهدئ رغبات الثأر، مما يقطع الطريق على تجدد العنف.
- على الصعيد الخارجي، يمكن لسوريا الجديدة أن تطمئن الدول الداعمة عبر خطوات إصلاحية جادة تظهر أنها تتجه فعلاً نحو الديمقراطية ودولة القانون، مثل:
-
- الإعلان عن جدول زمني واضح للانتخابات.
- وضع مسودة ميثاق وطني يضمن حقوق الجميع.
- هذه الإجراءات كفيلة بتحسين صورتها دولياً واستقطاب الدعم للإعمار والتنمية.
-
“نأمل أن يكون فاتحة خير للأمة السورية على طريق البناء والتطور” – الرئيس أحمد الشرع
سوريا بين الثورة والاستبداد الجديد
بعد كل هذه التضحيات، يجد السوريون أنفسهم في مواجهة استبدادٍ جديدٍ يرتدي قناعاً دينياً بدلاً من القناع القومي البعثي.
“الثورات تُطيح بالمستبدين، لكن نادرًا ما تُطيح بالاستبداد ذاته”. – “جورج أورويل”.
فيا ويحك أيها الرئيس الذي نَصَّب نفسه بنفسه، إنَّ الأمل لم يمت بعد، فالشعب السوري الذي ثار مرة، قادرٌ على أن يثور مجدداً لاستعادة حريته المسلوبة، لأن التاريخ أثبت أن إرادة الشعوب دائماً ما تنتصر في النهاية.