توطئة: فجر جديد بعد سقوط الأسد
في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد، دخلت سوريا مرحلة تاريخية فارقة تتأرجح بين الترقب والأمل، وبين الخوف من الانتكاس والتطلع إلى التغيير. خرجت البلاد من نفقٍ طويل من الدم والنار، لكنها لم تدخل بعد في الضوء الكامل للعدالة والحرية. في هذا المنعطف، تُطرح أسئلة مصيرية تتعلق بهوية الدولة، شكل الحكم، ونمط المصالحة المجتمعية الذي يمكن أن يرمم ما تهدّم. وفي قلب هذا المشهد، تبرز “العدالة الانتقالية” كإحدى أعقد القضايا التي تواجه حكومة الأمر الواقع، برئاسة أحمد الشرع، وتؤرق وجدان السوريين الباحثين عن الكرامة والإنصاف.
تحديات حكومة الأمر الواقع: شرعية ناقصة وتوازنات هشة
تتولى حكومة الأمر الواقع اليوم مهمة صعبة: إعادة تشكيل الدولة من ركامها، وسط انقسامات سياسية ومجتمعية حادة. وبالرغم من أن أحمد الشرع يحظى بدعم جزء من القوى الثورية، فإن حكومته تفتقر إلى شرعية وطنية جامعة، وتُتهم أحياناً بتكرار أخطاء الماضي عبر الاستئثار بالسلطة، والتساهل مع شخصيات كانت جزءاً من آلة القمع الأسدية. كما تواجه تحديات أمنية واقتصادية، تتداخل فيها ضغوط الخارج وتضارب مصالح الداخل، مما يجعلها تميل إلى سياسات “الاستقرار السريع“، ولو على حساب العدالة المؤجلة.
غالباً ما يُختزل مفهوم العدالة الانتقالية في كونه مجرد آلية لمحاكمة مجرمي الحرب ومنتهكي حقوق الإنسان. ولكن العدالة الحقيقية، كما أثبتت تجارب الشعوب، لا تقتصر على “سيف القصاص“، بل تتطلب “خيط شاقول البَنّاء” ليعيد تشكيل بناء مداميك “الذاكرة الوطنية” و “الاستقرار السريع“. إنها عملية طويلة ومعقدة، تهدف إلى ضمان حقوق الضحايا، وتوثيق الحقيقة، والإصلاح المؤسسي، وتعويض المتضررين، وبناء مجتمع يقوم على الثقة، لا على الخوف.
“العدالة الانتقالية ليست انتقاماً، بل وسيلة لضمان ألا يتكرر الماضي.” – المفكر الجنوب أفريقي ديزموند توتو
العدالة الانتقالية عبر تجارب الشعوب:
دروس مقارنة للحالة السورية
- في جنوب أفريقيا، ساهمت لجنة الحقيقة والمصالحة في تسليط الضوء على جرائم الفصل العنصري دون أن تُسقط فكرة المحاسبة.
- في رواندا، جرى اعتماد محاكم محلية (غاتشاكا) لتمكين المجتمعات من معالجة إرث الإبادة الجماعية.
- في تشيلي والأرجنتين، فقد استغرق الأمر سنوات قبل أن تتم محاكمة رموز الديكتاتورية.
لكن الحالة السورية مختلفة. فالمجتمع السوري لم يمر بمصالحة حقيقية بعد، ولا تزال الخلافات الطائفية والسياسية حادة، ووعي المواطنين بحقوقهم لا يزال في طور التكوين بعد عقود من التعتيم والتخويف. هذا يتطلب حلاً سورياً بمواصفات سورية، لا نسخاً جاهزاً من تجارب الآخرين.
أخطاء حكومة الأمر الواقع:
المصالحة مع المجرم لا تبني دولة وسلاماً أهلياً
من أكثر ما أثار جدلاً في الشارع السوري هو قرار حكومة الشرع بضم شخصيات من النظام السابق، متهمة بالقتل والفساد، إلى بعض مواقع السلطة المحلية أو التشريعية، بذريعة “الواقعية السياسية” أو “ضرورة الاحتواء”. هذا الخيار، الذي قد يبدو براغماتياً في لحظته، يحمل في طياته رسائل خطيرة: بأن الجلاد يمكنه النجاة، وأن دماء الضحايا ليست ثمناً كافياً لمنع المجرم من العودة إلى الواجهة.
إن إشراك من تلطخت أيديهم بدماء السوريين في إدارة المرحلة الانتقالية لا يُعد تسامحاً بل تواطؤاً. ذلك يُضعف من ثقة الناس في جدية الحكومة، ويفتح الباب أمام عقلية الإفلات من العقاب، وهي العقلية ذاتها التي قامت الثورة ضدها.
هل يتساوى الجلاد والضحية؟
يتساءل السوريون اليوم: هل يجوز أن يتساوى الجلاد بالضحية؟ كيف يمكن نسيان من دمر البيوت، وانتهك الأعراض، وسرَق أعماراً كاملة؟ وماذا عن ورثة الدم الذين ينتظرون بصيص إنصاف؟ المسألة ليست قانونية فحسب، بل أخلاقية وإنسانية عميقة.
كل تسوية لا تضمن الحق الشخصي للضحايا، وتعتمد على المصالح السياسية فقط، هي تسوية هشة ومؤقتة. و”العفو العام” الشامل الذي تسعى بعض الجهات لترويجه، قد يُستخدم كغطاء لإعفاء أنفسهم – وفصائلهم- من المحاسبة، خاصة من شارك من صفوف ثوار المعارضة المسلحة في ارتكاب انتهاكات مشابهة لتلك التي ارتكبها النظام.
العدالة ليست ضد السلام… بل هي شرط له
تدّعي بعض الأصوات أن “العدالة الكاملة” قد تُفجّر البلاد مجدداً. ولكن الحقيقة أن العدالة غير المُنجزة هي التي تُبقي جذوة الانتقام مشتعلة. لا مصالحة دون كشف الحقيقة، ولا سلام دون محاسبة، ولا مستقبل دون ضمانات عدم تكرار المأساة. كما قال نلسون مانديلا: “المصالحة لا تعني نسيان الماضي، بل استخدامه لبناء المستقبل.”
خاتمة:
العدالة الانتقالية ليست ترفاً سياسياً بل شريان السيادة الوطنية
إنّ العدالة الانتقالية ليست بنداً ثانوياً في أجندة بناء الدولة، ولا مسألة مؤجلة لحين اكتمال “الاستقرار الأمني“، بل هي المدماك الأول في جدار السيادة الوطنية، والضمانة الأهم لولاء الشعب للدولة الجديدة. وإذا كانت حكومة أحمد الشرع قد نالت فرصة تاريخية لقيادة سوريا في مرحلة ما بعد الأسد، فإنها اليوم تُختبر على المحك الأخلاقي والسياسي معاً.
إن التساهل مع القتلة، والحديث عن “المسامحة” بوصفها بوابة للسلام، يُعد خيانة للضحايا وطعناً في ذاكرة أمةٍ ما زالت تنزف. لا يمكن لحكومة تدّعي تمثيل الثورة أن تُكافئ ضباطاً مارسوا القتل والتعذيب، أو أن تُبرّر بقاءهم في مفاصل الدولة بحجة “الضرورات الانتقالية“. فحين يتساوى الجلاد بالضحية، تُمزّق شرعية الحكومة من جذورها، ويبدأ السوريون في البحث عن بدائل أخرى خارج هذا المسار المشوّه للعدالة.
ولذلك، فإن الحفاظ على مركزية الحكومة وسيادتها لا يكون بتنازلات تُغضب الشعب، بل عبر التمسك بالمبادئ الثورية:
- أولاً: محاسبة كل من ثبت تورّطه في انتهاك حقوق الإنسان، سواء من النظام السابق أو من صفوف المعارضة المسلحة، دون استثناء.
- ثانياً: إنشاء هيئة عدالة انتقالية مستقلة وشفافة تضم ممثلين عن الضحايا والمجتمع المدني، وتعمل تحت رقابة وطنية ودولية.
- ثالثاً: صياغة خطاب سياسي واضح لا يُساوي بين الضحية والجلاد، ويؤكد أن المصالحة لا تعني الإفلات من العقاب.
- رابعاً: سنّ قوانين “جبر الضرر” تُعيد الحق لأصحابه، وتؤسس لعقد اجتماعي عادل ينهي زمن الامتيازات الطائفية والعسكرية.
فحكومة تفقد بوصلتها الأخلاقية، ستفقد شعبيتها عاجلاً، وقد تواجه انفجاراً جديداً من الغضب الشعبي الذي لن يرحم تهاونها أو محاولاتها تبييض وجوه المجرمين. إنّ دماء الشهداء لا تُغفر بالتقادم، وإنّ العدالة هي وحدها الكفيلة بإقناع السوريين أن تضحياتهم لم تذهب سدى.
في النهاية، إن بناء سوريا الجديدة لا يبدأ من القصر الجمهوري بل من ضمائر أبنائها. فإما أن تُؤسس الدولة على ركائز عادلة، أو تُعاد الكرة من جديد نحو هاوية أخرى.