بعد مرور أكثر من اثني عشرة سنة على انطلاق الثورة السورية، وما زالت جرائم نظام الأسد بحق الشعب السوري هي الموضوع الأبرز الذي ينتشر بين حين وآخر في الساحة الدولية. فقد تمكنت المنظمات الحقوقية السورية بالتعاون مع نخبة من الهيئات القضائية الدولية من جمع أدلة دامغة تثبت مسؤولية النظام عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك القتل والاعتقال والتعذيب والاغتصاب بحق الشعب الذي طالب نظام الأسد المستبد بالحرية والكرامة والقضاء على الفساد.
وفي الآونة الأخيرة، شهدت الساحة الحقوقية السورية تطوراً جديداً، حيث بدأت تظهر أدلة جديدة عن جرائم النظام السوري من مصادر غير متوقعة. فقد تمكنت مجموعة من الصحفيين والباحثين من الوصول إلى وثائق سرية من داخل نظام الأسد، تثبت تورط النظام في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
لكل طاغية صندوق أسود
ولما كانت هذه الوثائق تؤرخ لحكم الطاغية، أطلق عليها فريق تحرير “مآلات” اسم “الصندوق الأسود لجرائم الأسد”، لكونها تتضمن معلومات وشهادات موثقة بحرفية عالية – لا شبهة فيها – تفضح معظم جرائم النظام السوري، مثل مجزرة الحولة ودوما وبانياس واستعمال الأسلحة الكيماوية في العديد من المناطق. كما تتضمن معلومات حول عمليات التعذيب التي يتعرض لها المعتقلون الأبرياء في سجون النظام.
وللتذكير، نستعرض غيض من فيض الأدلة التي يتضمنها الصندوق الأسود لجرائم الأسد:
- مجزرة الحولة: تتضمن الوثائق معلومات حول كيفية التخطيط والتنفيذ لمجزرة الحولة، التي وقعت في عام 2012، وراح ضحيتها أكثر من 100 مدني، معظمهم من الأطفال والنساء.
- مجزرة دوما: تتضمن الوثائق معلومات حول كيفية استخدام النظام السوري أسلحة كيميائية في مجزرة دوما، التي وقعت في عام 2013، وراح ضحيتها أكثر من 400 مدني.
- عمليات التعذيب: تتضمن الوثائق معلومات حول عمليات التعذيب الوحشية التي يتعرض لها المعتقلون في سجون النظام، والتي أدت إلى وفاة الآلاف منهم حسب وثائق قيصر المثبتة بالصور، وكذلك سب شهادة حفار القبور الذي حدد فيها مواقع المقابر الجماعية. والجدير بالذكر أنَّ هذين الشاهدين قد حضرا شخصياً لأدلاء شهادتهما مع الوثائق أمام الكونغرس الأمريكي، علاوة على شهادة حفار القبور في محكمة كوبلنز الألمانية التي دامت لستة ساعات على مدار يومين حسب رواية الإعلامية السورية “لونا وطفة” وهي عضوُ المجلس الاستشاري للهجرة واللجوء في كوبلنز.
النبش مجدداً في الصندوق الأسود
من الملاحظ في الفترة الأخيرة، أنَّ الإعلام العربي – مثلاً قناة الجزيرة – وبعض وسائل الميديا العالمية، وبمشاركة آلاف المواقع السورية والعربية، عادت لنشر شذرات مؤثرة من محتويات الصندوق الأسود لجرائم الأسد، مما يجعلنا استشراف أسباب ذلك إلى عدة عوامل، منها:
-
تناقضات تتعلق بمستجدات البيئة الجيوسياسية العربية
-
- بعد فشل حكام الدول العربية ولمرات عديدة في إقناع الأسد العودة للحضن العربي بأقل التنازلات التي تكفل إقناع المعارضة من إعادة اللحمة الوطنية معه، الأمر الذي اضطر هؤلاء الحكام من استعمال محتوى الصندوق الأسود لجرائم الأسد كفزاعة تهدد مستقبله في السيطرة على البلاد.
- يلعب هذا التصعيد الإعلامي دوراً محورياً لتشجيع القوى المعارضة للأسد على الاستمرار في تصعيد جذوة الثورة السورية لإعادته إلى ظروف تتشابه مع بدايات الثورة عندما كان الأسد في غرفة العناية المشددة.
- التلويح للأسد بأن ينكفئ ويتراجع عن موقفه كذراع إيرانية تحت مسمى دول الممانعة، وتحذيره بشكل مبطن ألا يتورط بمساندة حزب الله إذا انزلق لإشعال الجبهة مع إسرائيل.
- كشف المستور عن الجماهير العربية بتورط الأسد في الخديعة الإيرانية بأنها تلعب دور يهوذا الإسخريوطي في دفع الطائفة السنية لحمل صليبها في درب الجلجلة، وهذا كالذي تفعله إسرائيل اليوم مع فلسطينيي الضفة الغربية وغزة. فخلاص آلام الشعوب العربية لا يكون إلا بمحاربة المدّ الفارسي لإحباط هدفها لإعادة الإمبراطورية المجوسية التي كانت تاريخياً متحالفة مع اليهود لسحق الدويلات العربية.
-
التداعيات المستجدة في استراتيجية الدول الإقليمية لتأسيس شرق أوسط جديد
-
- شهدت سوريَّة في الآونة الأخيرة تغييرات في المشهد السياسي الدولي بعد تراجع دور روسيا وإيران في إعطاء الأولوية لدعم النظام السوري إثر خلافاته مع الحكام العرب الذين يترنحون ما بين مطرقة حرب أوكرانيا وبين السَدّان الأمريكي المتصارع مع القوة الصينية التي تهدد مستقبل امبراطورية الدولار، الأمر الذي وضع الحكام العرب الأقوياء في متاهة احتمال حرب كونية مباغتة.
- لذلك أصبح لزاماً التخلص من أعباء دعم الجميع لنظام الأسد نزولاً عند رغبة المعلم الأمريكي إبقاء الفتنة متأججة في سورية وتوسيعها عند الضرورة. وهذا التغيير أدى مجانبة تحقيق العدالة للشعب السوري.
الخلاصة
يعجز المراقب للمشهد السوري أن يستبين مآل بقاء الأسد من عدمه بسبب هذه التناقضات المذكورة، وتبقى البوصلة فاقدة اتجاهها ما دام فتيل حرب الأسد على شعبه يشكل ورقة الجوكر التي ستكون مفيدة في الوقت المناسب لإعلان شرق أوسط جديد.
وسيبقى على السوريين أنْ يستمروا بثورتهم مستفيدين من نبش الصندوق الأسود لجرائم الأسد ليكون جزءاً من سداد الدين علينا لأننا نحن الأمناء على دم الشهداء ما دمنا أحياءً.