مقدمة
شهدت العلاقات السورية اللبنانية تحولات كبرى على مدار العقود الماضية، تأثرت بعوامل إقليمية ودولية متغيرة. فمنذ الحرب الأهلية اللبنانية وحتى الانسحاب السوري من لبنان في 2005، ظل الوجود السوري مؤثراً رئيسياً في المشهد السياسي اللبناني. ومع اشتعال الأزمة السورية عام 2011، تفاقمت التحديات أمام البلدين، مما أضاف أبعاداً جديدة للعلاقة بينهما.
اليوم، ومع تزايد الضغوط الدولية على النظام الجديد السوري بعد هروب الأسد، والتغيرات الحاصلة في لبنان على الصعيدين السياسي والاقتصادي بعد غزو إسرائيل لجنوب لبنان، تتجه الأنظار إلى مستقبل هذه العلاقة ومدى إمكانية إعادة تموضعها في سياق إقليمي متغير. في هذا المقال، سنسلط الضوء على أبرز المحطات التاريخية للعلاقات السورية اللبنانية، التحولات الحالية، وتأثير القوى الإقليمية والدولية في رسم ملامح المستقبل بين البلدين.
المحطات التاريخية للعلاقات السورية اللبنانية
لطالما كانت العلاقة بين سوريا ولبنان محكومة بعوامل جغرافية وتاريخية وسياسية جعلت من المستحيل فصلهما عن بعضهما بشكل كامل. ومنذ الاستقلال اللبناني في 31 /12/ 1946 كانت سوريا لاعباً مؤثراً في الداخل اللبناني، مستندة إلى عدد من الركائز:
- الدور السوري في الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990):
مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، دخلت القوات السورية لبنان عام 1976 بدعوة من الرئيس اللبناني سليمان فرنجية، ضمن ما عُرف آنذاك بقوات الردع العربية. بقي الوجود السوري في لبنان حتى اتفاق الطائف عام 1989، الذي أنهى الحرب ورسم معالم النظام السياسي الجديد.
- حقبة ما بعد الطائف (1990-2005):
بعد انتهاء الحرب الأهلية، عززت سوريا نفوذها داخل لبنان عبر التحكم بالمشهد السياسي والأمني، وصولاً إلى انسحابها القسري عام 2005 عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وما تبعه من ضغوط دولية.
- ما بعد الانسحاب السوري (2005-2011):
حاولت سوريا الحفاظ على نفوذها عبر تحالفاتها مع قوى لبنانية مثل حزب الله وحلفائه، لكن هذا النفوذ تراجع مع تصاعد الانقسامات السياسية الداخلية في لبنان وتزايد التدخلات الدولية.
- تداعيات الأزمة السورية (2011-2024):
مع اندلاع الثورة السورية وتحولها إلى حرب مفتوحة، انعكس ذلك بشكل كبير على لبنان، حيث تعرض لاستقطاب سياسي حاد بين داعمي النظام السوري ومعارضيه. كما شاركت قوات حزب الله بدعم نظام الأسد وقتلت عشرات الآلاف من الثوار السوريين، وأدت الأزمة إلى تدفق أكثر من مليون لاجئ سوري إلى لبنان، مما شكل ضغطاً اجتماعياً واقتصادياً هائلاً على البلد الصغير.
المتغيرات الحالية في العلاقة السورية اللبنانية
في ظل التطورات الأخيرة، يمكن رصد مجموعة من العوامل التي تؤثر في مستقبل العلاقات بين البلدين:
- الضغوط الدولية على سوريا ما بعد الأسد:
ما زالت سوريا تواجه عزلة دولية بفعل العقوبات الاقتصادية والعلاقات المتوترة مع الغرب رغم سقوط نظام الأسد،، إلا أنَّ الموقف الدولي لا يزال متحفظاً، مما يؤثر على قدرة دمشق بإدارة سلطة الأمر الواقع ( بقيادة أحمد الشرع) على عودة التوافق مع التوأمة الجيوبوليتيكية والجيو استراتيجية مع لبنان؟
- التبدلات في الموقف الإقليمي:
تشهد المنطقة تحولات في المواقف الإقليمية تجاه سوريا، حيث تحاول بعض الدول الدولية خاصة العربية إعادة تأهيل سوريا بعد سقوط نظام الأسد إلى ما كانت عليه قبل الأسد الأب وابنه بشار، بينما تبقى دول أخرى مترددة. من جهة أخرى، فإن النفوذ الإيراني الذي بدأ بالتلاشي في سوريا ولبنان عبر ظروف حزب الله المستجدة ما زالت تخلق حالة من التوتر بين سوريا وحلفائها التقليديين مثل بعض الدول الخليجية.
- الدور الأمني والعسكري لحزب الله:
يعتبر حزب الله أحد أهم الفاعلين في العلاقة بين سوريا ولبنان، حيث لعب دوراً أساسياً في دعم النظام السوري السابق عسكرياً منذ اندلاع الأزمة. ومع تزايد الضغوط الغربية على الحزب، وخصوصاً بعد تصاعد الهجمات الإسرائيلية على مواقعه في سوريا ولبنان، فإن هذا قد يؤدي إلى إعادة تشكيل التوازنات داخل لبنان.
- ملف ترسيم الحدود والنزاعات الاقتصادية:
يبرز ملف ترسيم الحدود البحرية والبرية بين البلدين كأحد أهم القضايا العالقة، خاصة بعد نجاح لبنان في التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود مع إسرائيل. يمكن أن يكون هناك تحرك دولي وإقليمي للضغط على سوريا لحل هذه الملفات، بما في ذلك ملف التهريب الحدودي الذي يرهق الاقتصاد اللبناني.
السيناريوهات المحتملة لمستقبل العلاقات السورية اللبنانية
انطلاقاً من العوامل السابقة، يمكن رسم عدة سيناريوهات لمستقبل العلاقة بين سوريا ولبنان:
- تعزيز النفوذ السوري من جديد:
في حال نجح النظام السوري الجديد في كسر العزلة الدولية واستعادة علاقاته مع الدول العربية والغربية، فقد يسعى إلى إعادة توسيع سمة التوأمة مع لبنان عبر الحلفاء التقليديين.
- تحول لبنان نحو سياسة أكثر استقلالية:
في ظل الأزمات المتزايدة، قد يحاول لبنان رسم سياسة أكثر توازناً بعيداً عن التأثيرات الخارجية، وهو ما قد يكون مدعوماً من بعض القوى الدولية الراغبة في تحجيم النفوذ السوري والإيراني.
- استمرار الفوضى والتخبط السياسي:
في ظل غياب حلول واضحة للأزمات الاقتصادية والسياسية في لبنان، قد تبقى العلاقة السورية اللبنانية في حالة من عدم الاستقرار والتجاذبات، دون حسم واضح لأي من السيناريوهات السابقة.
وختاماً
تظل العلاقة السورية اللبنانية واحدة من أكثر العلاقات تعقيداً في المنطقة، حيث تتداخل فيها عوامل الجغرافيا، التاريخ، والمصالح الإقليمية والدولية. وبينما تواجه الدولتان تحديات ضخمة، فإن مستقبل هذه العلاقة سيتحدد بناءً على التطورات السياسية والأمنية في المنطقة، ومدى قدرة كل من سوريا ولبنان على تجاوز أزماتهما الداخلية وبناء علاقات أكثر استقراراً وتوازناً.