تنهال عليَّ أسئلة كثيرة من مواطنين ألمان أقيم بينهم في مغتربي القسريّ، وفحوى معظمها سؤال واحد:
هل فشلت الثورة السورية وأصبحتِ مقيمةً معنا منذ سنوات؟ أجيبهم باختصار أنَّ الثورة ما زالت مستمرة … وتتالى أسئلة كثيرة بعدها:
هل تنوون اطلاق ثورة على هذه الثورة؟ . ابتسم لهم كدلالة على أني لا أعلم.
لذلك كتبت هذا المقال كي تسعفوني بمزيد من التعليقات لأصيغ لهم أجوبة ربما تكون أكثر منطقية لهم. الساحة مفتوحة لكم لأي اجابة ترتأونها. وشكراً…
قراءة في الحال الراهن
عندما انطلقت الثورة السورية عام 2011، انضمت إليها جمهرة من كل أطياف المجتمع حتى بلغت أعدادهم ثلاثة أرباع الأهالي من مدنيين وعسكريين وعاملين في قطاعات الدولة. أما الربع الذي تبقى خارج قوسي الثورة، كان عدد -لا بأس به- ينتظر تكييف ظروفه مع تداعيات الأحداث القادمة التي ستسفر عن عقدٍ مجتمعيٍ جديدٍ، كان ملامحه لم تتضح بجلاء بعد.
مراحل مضت
وفي الأشهر الأولى من بداية الثورة، لم تكن هناك قيادة رشيدة موحدة لها بسبب اطباق الجهات الأمنية على مفاصل الحياة المجتمعية بكاملها، مع التغوّل في أدوات القتل والتدمير تيمناً بالشعار الذي أطلقه النظام “الأسد أو نحرق البلد“. لذلك دبت الفوضى في صفوف الثوار، مما هيأ للمعارضة الموصوفة بالإسلام السياسي -وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين- أن تُبرز تنظيمها في الصفوف الأولى من تراتبية الفئات الثورية باختلافها. وهذا الأمر خلق صدامات بينية بين الثوار ، مما زاد في تشتيت الصفوف وإضعاف قوتها.
ألاعيب النظام
كان النظام -المعروف بخباثته المعهودة- مدركاً أنَّ اقحام الكثير من أعوانه بين صفوف الثوار سينجح في رصد الأحداث قبل وقوعها، واتخاذ تدابيره القمعية بما يحقق له الفرصة للنجاح في إبادة ما أمكن من أعداد الثوار الهائل بأقصر مدة زمنية. وهذا يُيَسِر له تفكيك تحالفات القوى الثورية التي اضطرت آنذاك إلى الاستعانة ببعض الدول العربية لامدادها لوجستياً لمواجهة القوات الأسدية التي تبطش بالثوار.
وعلى المقلب الآخر، لم يغفل النظام عن القيام بخلط الأوراق عندما استقدم الدواعش والمرتزقة، ودسَّهم بين صفوف الثوار براياتهم السوداء ولحاهم العثة، كي يوهم الثوريين بأنهم أفضل حليف لهم يساعدهم على اجتياز هذه المحنة. وخلال تلك الفترة، بدأت نتائج تشكيل المجلس الوطني تشير إلى انتشار الفساد بين عدد من مراكز القيادة فيها، حيث بدأ النزاع فيما بينهم على تقاسم المال السياسي الذي يصل إليهم تحت مسمى إغاثات إنسانية للنازحين المشردين في البراري دون مأوى.
ولن أتوسع -في هذا المقال- بتفاصيل هذه المرحلة، لكنَّ الوثائق التي تدين هؤلاء المارقين مخزونة -للمحاسبة مستقبلاً- لدى الشرفاء من أعضاء المجلس الوطنيين وكذلك أعضاء الائتلاف، الذين نأووا بأنفسهم وغادروا هذه البوتقة الفاسدة التي أضرَّت بالثورة وأصابتها في مقتل.
مفرزات أليمة
وهكذا تتالت الأحداث التي أفرزت المزيد من تضارب التحالفات، وسحق ما جنته الثورة في باكورة أيامها. وأصبحت الساحة مرتعاً للنظام وحلفائه الإيرانيين والروس وشيعة التطرف إلى جانب تفقيس مستدام لفصائلٍ تحمل رايات سوداء كي توهم الجمهور بأنها “إسلامية“. وأصبح العقد الاجتماعي الجديد الذي كادت الثورة أن تحققه في مهب ريح خَلْقِ شرق أوسط جديد تكون الزعامة فيه لدولة الكيان الصهيو-أمريكي.
هل فشلت الثورة؟
رويداً رويداً, يزداد التفسخ والهزال في جسد الثورة. حتى الأطفال الذين ولدوا وترعرعوا في مخيمات النزوح، باتوا مقتنعين أنَّ سورية التي يتشدق بها السياسيون لم يعد لها وجود كوطن لهم…
أصبحت الخيام التي اهترأت خلال اثنى عشر سنة هي وطنهم! إن سألتهم ما اسم وطنكم؟ يقولون لك هذه الخيمة. وإن سألتهم من هم مواطنيكم؟ يلوذون بالصمت لخوفهم من الموت إذا قالوا أنَّهم زعران الجولاني أو أبو عمشة أو حكومة الإنقاذ الوطني … وكثيرة هذه الأسماء.
الواقع بظاهره يوحي أنَّ الثورة قد فشلت، أما باطن الواقع يخبأ في ثنايا وجدان الوطنيين الشرفاء تلك الثورة التي لا تموت، بل تستمر الثورة السورية في كل تفاصيل حياتنا، لقد خُلقَت الثورة كي تجلب الحرية والكرامة، وقدمت مليون شهيد وعشرة ملايين من المغتربين قسرياً. الدم لا يضيع، بل ينتقل ليصبح إرثاً يَضخُّ في وجدان الأحياء وقوداً كي يُكمِلوا المسيرة. هم رسموا خارطة طريق لنا في نهايته الحرية، وعلينا أن نقطعه كي نصل.
الرد على نداء وجوب قيام ثورة على هذه الثورة
لا مندوحة لنا عن القول، أنَّه قد تمَّ افتُراس الثورة من قبل النظام الإستبداي المدعوم من أسياد هذا العالم المتوحش، الذي يريد للأحرار أنْ ينقرضوا كي يهنأ على حساب دمائنا. إنهم واهمون لدرجة الغباء. إنْ رجعوا إلى تاريخ السوريين، سيكتشفون أنَّ السوري على مدى العصور، واجه حروباً مع امبراطوريات وممالك عديدة. وقد استطاع السوريون -بفضل خبرتهم ووعيهم الموروث- في فترات كثيرة، أن يحكموا تلك الإمبراطوريات والممالك، إما بفعل السلاح أو باستخدام علومهم وإنجازاتهم الحضارية. وكلما كانوا على حافة الانقراض، تجددوا وتكاثروا وانتشروا من جديد. شعارهم منذ بداية حضارتهم الكنعانية “ديموزي يتجدد” – “طائر الفينيق يقوم من تحت الرماد”.
الأمل لا يغيب بل يتجدد
ولأننا -اليوم- معطلين عن إنتاج قوة العلم والسلاح التي امتلكها أجدادنا بسبب الأنظمة التي أطبقت على ابداعنا منذ أكثر من ألف عام. فعندما نجحنا في نيل استقلالنا في مثل هذا الشهر من عام 1946، رسموا لنا حكاماً مستبدين، باغتناهم بثورتنا في 2011. لذلك، ما دمنا قادرين على تشخيص الداء، لا بُدَّ أن نلجأ للدواء كي نتعافى.
دواء التعافي الناجع
التخلص من الفساد المستشري في جسد الأمة السورية:
- الأولوية تكمن في إصلاح الذات الثوريَّة، وتنظيف الأجرام الفاسدة التي تستوطن بيئة الثورة. بدءاً من الأشخاص الذين قبعوا متمسكين بسِدَّة القيادة دون أنْ يختيارهم الشعب الثائر، كمثال: (المجلس الوطني والائتلاف). وينطبق هذا الأمر على ضرورة اسقاط نفوذ الفصائل المرتزقة الذين يديرون شؤون المناطق المحررة لأنهم أذرع النظام القاتلة لحريتنا.
- عدم الرضوخ لأجندات النظام التي تفرضها علينا بعض الجهات الإقليمية والدولية تحت شعار التصالح مع النظام، والخضوع لتسوية ولو محددة الزمن، لأنها خدعة تشابه خدعات الكيان الصهيوني بالتعامل مع الفلسطينيين (كامب ديفيد وأوسلو ، وسواها الجارية اليوم مثالاً). وليكن نضال الفلسطينيين منذ 76 عام -وحتى اليوم- ديْدناً لنا. لأنَّ ارتباط نظام الأسدَيْن الخفيّ مع الأجندة الصهيونية بات سافراً، ولا تبرير يمكن أن يطمسه.
- خلال فترة وصول الثورة للنصر، يجب على الشرفاء الذين سيقودون هذه المرحلة، أن يولوا جلَّ اهتمامهم إلى:
- إدارة الحوار بعقلانية وطنية مع الدول المعنيّة بالشأن السوري، دون أية تنازلات تفتك بثوابت الثورة، لأنَّ الحق أقوى من أنْ يضعف أو يتماهى، ومن يحاورك وأنت متمسك بحقوقك دون تنازل، يضطر إلى احترامك ولو لم يُشعرك بذلك. أية مفاوضات يكسبها من يقوى عند عضَّة الأصابع ألا يقول (آخ) قبل الآخر.
- السيطرة التامة على موارد الإغاثة، وإقصاء العابثين في توزيعها على من يستحقونها.
- الإهتمام بالرعاية الصحية وتحسين أحوال الإقامة للعائلات النازحة.
- إيلاء أهمية فائقة لتعليم الأطفال واليافعين الذين حرموا من التعليم بسبب النزوح أو عدم توفر المدارس المؤهلة للقيام بهذه العملية المقدسة.
- تأسيس منصات إعلامية رصينة بعدة لغات للوصول للرأي العام بوضوح. وتمكينه من تغطية كل ما يصدر عن الثورة من أحداث إخبارية مرئية أو مقروءة، وتغطية المؤتمرات والندوات مع تعزيز العلاقات الإعلامية مع وسائط الميديا باختلاف هويتها. وتخصيص برامج خاصة تخاطب أبناء المهجرين قسراً في الدول الأجنبية لتعزيز ارتباطهم بالوطن الأم كي لا نخسرهم كثروَةٍ وطنيَّة مستقبلاً.
ختاماً
نؤكد أنَّ واجبنا الوطني ألا نقوم بثورة على هذه الثورة، والأصوب أن نسعى بجدٍ لتصحيح مسار الثورة. يحتاج ذلك إلى الكثير من الأفكار والرؤى التي لا يمكن أن يستوعبها أي مقال يُنشر ، لأنَّ كل سوري وطنيّ لديه من الأفكار والمقدرة على انجاح الثورة رغم اختلاف الرؤى عند الآخرين، وهذه ظاهرة صحيَّة يجب أن نستفيد منها. لذلك لايكمن الوصول لمنجزات مثاليَّة ما لم تتوحد الصفوف وتتحاور كل الأطراف بلغة وطنية بعيدة عن الجدل العقيم الذي تسببه عادة “الأنيَّة الفرديَّة” المتضخمة.
الأديان لله جلَّ وعلا
الوطن حق للجميع … والحق لا يموت
النصر قيد أنملة.. بالتصميم ندركه، وليس هو بمستحيل، فلنتحدى ونَتحِد!