مقدمة: لحظات التاريخ التي لا تعود
تمرّ الأمم في مسيرتها بلحظات فارقة تكون فيها الخيارات محدودة لكن العواقب جسيمة. تلك اللحظات لا تأتي كل يوم، بل تنفجر فجأة بعد عقود من الركود، وتفرض على المجتمعات أسئلة وجودية: من نحن؟ ماذا نريد؟ وأي مستقبل سنرسم؟ نحن اليوم في سوريا نعيش لحظة مشابهة، ليس فقط باعتبارها أزمة وطنية، بل مفترق طرق تتقاطع فيه المصائر الجغرافية والسياسية والروحية للشعب بأكمله.
لا يجوز لهذه اللحظة أن تمرّ كما مرت سابقاتها، دون وعي جمعي ودون قيادة تمتلك البصيرة قبل المعلومات، والرؤية قبل ردود الفعل.
البصيرة لا المعلومات: وعي اللحظة الفارقة
“ليست كل الأيام متشابهة؛ بعض اللحظات تختزل قروناً.” اقتباس: “عامر عبد الله“
الوعي التاريخي المجرد لا يكفي إن لم يُقترن بالبصيرة السياسية. التحدي الحقيقي يكمن في التقاط إشارات التحول الكبير قبل أن تتبلور في خرائط جديدة. فالأمم التي تقرأ لحظتها الراهنة بدقة هي وحدها من ترسم مستقبلها بيدها، أما من يتردد أو يراهن على الوقت، فيجد نفسه رقماً في معادلات الآخرين.
ألمانيا الغربية مثال على هذا النوع من البصيرة؛ تجاوزت أنقاض الحرب بمشروع وطني متكامل اندمج في أوروبا، بينما إيران ما بعد الثورة غرقت في مشروع مغلق على ذاته بسبب انعدام البصيرة الجماعية.
سوريا بين بؤس التجربة وصمود الروح
“الخراب لا يقضي على الأمم، بل يقضي على من يظنون أن النهوض مستحيل.” اقتباس: “عامر عبد الله“
سوريا عاشت أقسى أنواع الاستنزاف خلال السنوات الماضية: نظام مستبد، ثم حرب أهلية، ثم تقاسم نفوذ دولي، وأخيراً انهيار اقتصادي شامل. ومع ذلك، فإن ما تبقى من الروح السورية يدل على عمقٍ لا يزال قادراً على إنتاج مشروع وطني.
فيتنام مثال على أمة خرجت من حرب كارثية لتصبح قوة اقتصادية إقليمية. أما رواندا فقد تجاوزت الإبادة الجماعية من خلال بناء عقد اجتماعي جديد يستند إلى العدالة والمصالحة. هذه التجارب تؤكد أن النهوض لا يرتبط بالارتهان لدول أخرى، بل بإرادة أفراد الأمة.
الخرائط تُرسم من فوق… ولكن من يصادق عليها؟
“سايكس وبيكو رسما لنا حدودنا، لكننا نحن من أضفنا الأسلاك الشائكة.” اقتباس: “عامر عبد الله“
ما يجري اليوم من تفاهمات إقليمية ودولية يعيد رسم معالم الشرق الأوسط، وسوريا ليست استثناءً. إلا أن أي خريطة لا تصمد إن لم يصادق عليها أبناء الوطن. فالعراق رغم الدعم الدولي، بقي هشاً بسبب غياب التوافق الوطني.
إن الخطورة تكمن في أن التفاهمات الحالية تتم في ظل غياب إرادة سورية مستقلة، ما يجعل من سوريا ساحة بلا هوية بدلاً من دولة، مما يهدد مستقبل السيادة الوطنية. وهذا ما يدفعنا إلى سؤال جذري: هل نترك مصيرنا يُحسم في العواصم الأجنبية؟ أم نبادر لنكون جميعاً شركاء في رسمه؟
من دولة لها دور إلى دولة ذات وظيفة؟
“ثمة فرق بين أن تكون دولة، وأن تؤدي دور الدولة.” اقتباس: “عامر عبد الله“
تواجه سوريا اليوم احتمالين لا ثالث لهما: إما أن تستعيد مكانتها كدولة فاعلة ومؤثرة، أو أن تتحول إلى كيان يؤدي وظيفة جغرافية ضمن توازنات الآخرين. هذا الواقع هو نتيجة طبيعية لغياب القرار السيادي، ووجود قواعد أجنبية على الأرض، وتعدد المرجعيات داخل الوطن الواحد.
لبنان بعد اتفاق الطائف مثال على دولة أُريد لها أن تكون آلية لاحتواء التوتر لا أكثر، فبقيت بلا رؤية أو مشروع. أما كوريا الجنوبية، فقد رفضت هذا المصير وقررت أن تصنع نموذجها، فنجحت رغم التهديد المستمر من حدودها الشمالية.
السيادة السورية: بين تحديات الخارج ومصادرة الداخل
“السيادة لا تُستعاد بالشعارات، بل بمؤسسات تعكس الإرادة الوطنية.” اقتباس: “عامر عبد الله“
من أكبر التحديات التي تواجه سوريا اليوم ليس الاحتلال الأجنبي وحده، بل شكل الحكم الداخلي الذي صادر إرادة الشعب لعقود. لا يمكن الحديث عن استعادة سيادة في ظل استمرار القبضة الأمنية، وغياب آليات التمثيل الحقيقي.
أوكرانيا قبل الحرب مثال حي: حاولت إعادة تعريف سيادتها بعيداً عن الوصاية الروسية، لكنها دفعت ثمناً باهظاً لغياب التماسك الداخلي. العبرة هنا أن لا سيادة بلا عقد وطني موحد، ولا عقد بلا ثقة بين الأفراد والدولة.
الأمن والتنمية لا يتحققان بلا عدالة
“لا سلام بلا عدالة، ولا عدالة بلا حرية.” اقتباس: “عامر عبد الله“
أي مشروع اقتصادي في سوريا سيكون بلا جدوى إن لم يُبنَ على أسس العدالة القانونية والاجتماعية. الأمن الحقيقي لا يتحقق بإعادة انتشار الأجهزة، بل بإعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة.
جنوب أفريقيا قدمت نموذجاً ناجحاً في تجاوز الانقسامات العرقية عبر العدالة الانتقالية. فهل يمكن لسوريا أن تنجز تحولاً مماثلاً؟ أم سنعيد إنتاج الاستبداد بوجه جديد؟
شراكة وطنية: لا وطن من دون الجميع
“الاستثناء بداية الاستبداد.” اقتباس: “عامر عبد الله“
لا يمكن بناء سوريا جديدة بإقصاء نصف شعبها. يجب فتح الباب أمام الجميع للمشاركة في صناعة القرار، بمن فيهم أولئك الذين وقفوا على الضفة الأخرى من النزاع. السياسة الناجحة ليست تلك التي تنتصر، بل التي تُقنع وتجمع.
تونس رغم الصعوبات قدمت محاولة حقيقية لبناء شراكة وطنية من خلال الحوار، وهو ما جنّبها السيناريو السوري أو الليبي. التجربة تؤكد أن الشراكة ليست خياراً سياسياً فقط، بل شرط وجود.
خاتمة: لا تسمحوا للخرائط أن تسبق وعيكم
إن اللحظة التي نعيشها اليوم في سوريا لا تقبل التردد. إما أن نبادر لاستعادة المبادرة الوطنية، أو نتركها تُصادر من قبل الخارج والداخل معاً. هذا الوطن لا يحتمل مزيداً من التأجيل، ولا يقبل أن يكون مجرد موقع استراتيجي ضمن خرائط الآخرين.
علينا أن ندرك أن السيادة تُبنى بمشروع وطني ينهض من تحت، من الشعب، من المجتمع، من الوعي العام. وكل لحظة تأخير تعني فقدان المزيد من الأرض، والمزيد من الكرامة.
يا أبناء سوريا، لا تنتظروا أن يُمنح لكم المستقبل، بل اصنعوه بأنفسكم. لا تسمحوا للماضي أن يعيد إنتاج نفسه، ولا تستهينوا بقدرتكم على قلب الموازين. ما نحتاجه ليس معجزة، بل إرادة بلا نرجسية، وبصيرة مناقبية.
المستقبل لا يُكتب بالحياد، بل بالقرار. والخرائط التي تُرسم اليوم لا قيمة لها إن لم نرسم جميعاً مشروع وطن يليق بنا.