غريزة الجماعة ونسيان الذات
هل سبق لك أنْ شعرت بأنك تنجرف مع تيار عام، تتخذ قراراً أو تتبنى رأياً، فقط لتكتشف لاحقاً أنه لم يكن قناعتك الحقيقية؟ هذه هي عقلية القطيع؛ ظاهرة نفسية واجتماعية عميقة، تتجلى حين يتخلى الأفراد عن تفكيرهم النقدي وحكمهم الشخصي لصالح التوافق مع المجموعة. إنها ليست مجرد امتثال بسيط، بل هي حالة من “نسيان الذات” لصالح “وعي الجماعة”، حتى لو كانت الوجهة خطرة أو مناقضة للمصالح الفردية أو القيم الأساسية. وكما قال الفيلسوف الإغريقي أرسطو:
“الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه”.
هذا الميل الفطري نحو الانتماء قد يتحول، في غياب الوعي، إلى نكران للذات في سبيل “وهم الجماعة“.
لقد شهد التاريخ البشري فصولاً دامية كُتبت تحت تأثير هذه العقلية. ففي ألمانيا النازية، لم يكن صعود هتلر ممكناً لولا انجراف ملايين الألمان خلف خطاب عنصري توسعي، ليس بالضرورة عن قناعة راسخة لدى كل فرد، بل بفعل آليات التضليل الإعلامي الممنهج، والترهيب، والخوف من الاختلاف. ملايين الألمان شاركوا أو صمتوا أمام فظائع لا تُحصى، ارتكبت باسم “الوحدة الوطنية” و”العرق النقي“.
لقد أثبتت تجارب عالم النفس الأمريكي سولومون آش حول الامتثال، أن الأفراد يميلون إلى التوافق مع رأي الأغلبية حتى لو كانوا يعتقدون أنه خاطئ، لتجنب الشعور بالاختلاف أو النبذ. هذا التاريخ ليس مجرد حكايات تُروى، بل هو تحذيرٌ حيٌ لنا: متى يغيب التفكير النقدي، يصبح الوعي الجمعي أداة تدمير ذاتي.
عقدة الولاء الموروثة: من الأسد إلى الشرع
عقودٌ طويلة حكم فيها نظام الأسد (الأب والابن) سوريا، لم تكن مجرد سنوات سياسية، بل كانت مصنعاً لـ(عقلية القطيع). لقد بنى النظام سلطته على أعمدة من القمع الوحشي، التضليل الإعلامي المحكم، وتغييب ممنهج للحريات. أجيالٌ نشأت على ترديد “الأسد أو لا أحد“، وترسخت في عقولها فكرة أنَّ “القائد الخالد” هو المخلّص الأوحد. هذا التغييب للوعي الفردي، جعل من السوريين “جماهير” بالمعنى الذي وصفه عالم النفس الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير“: “الجماهير لا تفكر، بل تتخيل“.
لقد نجح النظام ببراعة في تغذية هذا “التخيل الجمعي” لضمان ولاء مطلق وتغييب أي حس نقدي. – اقتباس مايا سمعان
ثم جاءت الثورة السورية، انتفاضة شعبية كبرى، بدا فيها وكأنَّ الشعب قد كسر أغلال القطيعية (نسبة إلى القطيع). لكنَّ المفارقة المؤلمة تكمن في تحول جزء كبير من هذه الثورة إلى نموذج آخر لـ”عقلية القطيع – أو سلوك القطيع” المتقلبة، أو ما يُعرف في العامية السورية بـ”التكويع“، تبديل سريع ومربك للمواقف والولاءات. ففي تحول صادم، انتقل “رسن القطيع” الذي كان بيد الأسد، ليصبح اليوم في يد أحمد الشرع“. هنا يكمن مربط الفرس: كيف يمكن لذاكرة شعب أن تمحو حقيقة أن هذا الرجل، الذي يُقدّم اليوم كـ”قائد”، كان هو “الجولاني” الذي قاد فصائل تقاتلت وقَتلت، وتسببت في “عطب مربك منح الأسد فرصة استعادة 85% من الأراضي التي كانت تحت سيطرة الثوار”؟ إنها مأساة “ذاكرة السمكة” التي تنسى بسرعة، حيث أصبحت ذات الجماهير وحتى بعض النخب، التي كانت تكيل السب والشتم للجولاني بالأمس، تصفق للشرع اليوم. إنها تجسيد صارخ لمقولة الكاتب الإنجليزي جورج أورويل:
“من يسيطر على الماضي، يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر، يسيطر على الماضي.”
“ذاكرة السمكة” ومثَل “من يتزوج أمنا يصبح عماً لنا“
ما شهدناه في سوريا من تقلبات يبرهن بما لا يدع مجالاً للشك أن الذاكرة السورية تماثل ذاكرة السمكة؛ سريعة النسيان، سهلة التكيف، ومستسلمة للواقع مهما كان قاسياً أو مناقضاً لأبسط المبادئ. هذه الظاهرة ليست جديدة؛ بل هي نمط متكرر في تاريخ الشعب السوري مع أنظمة الحكم المتعاقبة. لنعد بالذاكرة إلى الخمسينيات والستينيات، حيث سلسلة الانقلابات العسكرية المتتالية: البداية جاءت من حسني الزعيم ” 1949″ ثم الشيشكلي إلى هاشم الأتاسي وشكري القوتلي وجمال عبد الناصر وناظم القدسي وصولاً إلى انقلاب البعث 1963. في كل مرة، كان الشعب يمر بمرحلة من “التكويع“؛ قبول بالوضع الجديد، وتبديل سريع في الولاءات. لقد ترسخت ثقافة “القبول بالأمر الواقع” حتى باتت أشبه بفلسفة حياة.
يتجلى هذا الاستسلام في المثل الشعبي السوري البليغ: “من يتزوج أمنا يصبح عماً لنا“. هذا المثل ليس مجرد قول مأثور، بل هو اختزال لفلسفة مجتمع اعتاد على الانصياع لأي سلطة جديدة، بغض النظر عن شرعيتها، أو ماضيها، أو حتى تناقضها مع قناعاته الأساسية. إنه يعني أن الانقياد لأي سلطة يجب ألا يخضع للاختيار الفردي أو النقاش المجتمعي، بل ينضوي تحت سياسة القطيع. فالمجتمع هنا لا يختار، بل يُجبر على القبول، حتى لو كان ذلك يعني خيانة للمبادئ أو تناسياً للحقائق، مما يضعهم أمام “خيار بلا خيار” أو ما يُعرف بـ”Hobson’s Choice“. وكما قال الكاتب الإيطالي نيكولو مكيافيلي:
“الناس ينسون موت آبائهم أسرع من نسيانهم فقدان ممتلكاتهم.”
وهذا يشير إلى عمق التأثير الذي يمكن أن تحدثه الظروف المادية والضغوط على الذاكرة الجمعية.
هنا تبرز نظرية “Hobson’s Choice“ (خيار هوبسون) كمفتاح لفهم جزء كبير مما حدث في
“Hobson’s Choice”: وهم الاختيار في الواقع السوري
سوريا. تصف هذه النظرية موقفاً يُعرض فيه خيار واحد فقط، ورغم أنه يُقدم كخيار “حر“، إلا أنه في الحقيقة لا يترك مجالاً لأي بديل حقيقي. الخيار الوحيد المتاح هو ما تم تقديمه، وإلا فلا شيء على الإطلاق، أو ما هو أسوأ. ليس بالضرورة أن تكون البدائل معدومة تماماً، لكن عواقبها وخيمة جداً لدرجة تجعلها غير مقبولة أو مستحيلة التحقيق. وكما قال الفيلسوف الإيرلندي جورج بيركلي:
“الحرية الحقيقية ليست أن تفعل ما تريد، بل أن تفعل ما يجب عليك فعله”.
لكن “خيار هوبسون” يفرض عليك ما يجب عليك فعله بطريقة قسرية، ويُزيّن لك القبول به كأنه “اختيارك الحر“.
في السياق السوري، يمكننا إسقاط هذه النظرية على فترات مفصلية. لعقود، كان “الخيار” الوحيد المتاح للشعب السوري هو الانصياع المطلق للنظام. أي بديلٍ كان يعني الاعتقال، التعذيب، الموت، أو التغييب القسري. لم يكن هناك خيار حقيقي للمشاركة السياسية أو التعبير عن الرأي. وحتى في مراحل مختلفة من الثورة، عندما انحصرت “الخيارات” بين فصائل معينة، أو بين جهات داعمة تفرض أجندتها الخاصة، وجد السوريون أنفسهم أمام “خيار هوبسون”. لقد أُجبروا على قبول واقع قاسٍ أو الانضمام لتياراتٍ لم تكن بالضرورة تمثل طموحاتهم، ليس عن قناعة، بل لأن البدائل كانت معدومة أو باهظة الثمن.
هذا “القبول القسري” هو الذي غذى “التكويع”؛ تغيير المواقف ليس عن تغيير في القناعات، بل عن غياب البديل الآمن والفعال. – اقتباس مايا سمعان
التحرر من الأغلال: طريق الوعي والذاكرة
إن التحرر من عقلية القطيع ليس خياراً، بل ضرورة وجودية للبقاء كشعب يمتلك كرامته وحريته. يتطلب ذلك جهداً واعياً ومستمراً على المستويين الفردي والجماعي.
أولاً، يجب أن نغرس في أنفسنا وعقولنا الوعي الفردي. أن نتعلم كيف نفكر بشكل نقدي، ونشكك في المعلومات الواردة إلينا، ونبحث عن مصادر متعددة، ولا ننجرف وراء الرأي السائد لمجرد كونه “سائداً”. وكما قال الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”. الوجود الحقيقي، الحر، يبدأ بالتفكير المستقل.
ثانياً، علينا أن نحافظ على الذاكرة الجماعية بكل تفاصيلها، مرارتها، وآلامها. يجب ألا ننسى التضحيات التي قُدمت، ولا الأخطاء التي ارتُكبت. تذكر الماضي ليس للعيش فيه، بل للتعلم منه وتجنب تكرار كوارثه. يجب أن نروي قصصنا لأجيالنا القادمة -خاصة في بلاد الاغتراب القسري-، وأن نضمن أن الحقيقة لا تُدفن تحت رمال النسيان أو التضليل.
ثالثاً، لا بد من تعزيز ثقافة الحوار والاختلاف؛ فقبول وجود وجهات نظر متباينة والنقاش البناء حولها هو أساس أي مجتمع حي وحر. الصوت الواحد، حتى لو بدا قوياً ومدوياً، هو علامة على موت الفكر.
رابعاً، يجب العمل على بناء مؤسسات مجتمع مدني قوية تكون بمثابة صمامات أمان، توفر منصات للنقاش الحر، وتحاسب السلطات، وتُسهم في بناء مجتمع واعٍ.
وأخيراً، يجب أن نغرس في الأجيال الجديدة قيم التفكير النقدي، والمسؤولية الفردية، والشجاعة المدنية في مواجهة الظلم والتضليل. فالمعرفة والوعي هما السلاح الحقيقي للتحرر.
خاتمة: قفزة الوعي نحو الهوية والحرية
نقف اليوم أمام مفترق طرق تاريخي. إن الاستسلام لـ عقلية القطيع هو بمثابة السقوط في رمال متحركة، كلما حاولت التحرك فيها غرقت أكثر، وكلما استسلمت لموجهات الغير، فقدت ذاتك. لن ينجو من هذه الرمال إلا من يمتلك الشجاعة والرؤية لتجاوزها قفزاً. هذه القفزة لا تعني التهور أو الفوضى، بل تعني التفكير المستقل، والتمسك بالقيم والمبادئ، والحفاظ على هويتنا الوطنية التي تمنحنا القوة والحرية.
إنَّ الهوية الوطنية ليست مجرد وثيقة تعريف أو علم يُرفع، بل هي روحنا الجمعية؛ هي مجموعة من القيم، تاريخ مشترك من المقاومة والتضحيات، وتطلعات مستقبلية. – اقتباس مايا سمعان
إنها الحصن الذي يحمينا من التنازل عن ذواتنا ومستقبلنا. إن التمسك بهويتنا يعني السعي الجاد لإرساء العدل، وتحقيق الازدهار، وبناء وطن تسوده الحرية والكرامة والمساءلة. وكما قال الرئيس الأمريكي جون كينيدي:
“لا تسأل ماذا يستطيع وطنك أن يقدم لك، بل اسأل ماذا تستطيع أنت أن تقدم لوطنك”.
إن واجبنا اليوم، بل مسؤوليتنا المقدسة، هي أن نكون رواداً في التفكير، لا مجرد تابعين في قطيع. أن نرتفع فوق رمال النسيان والتبعية لنمحو عار “ذاكرة السمكة“، ونبني سوريا حرة مزدهرة، تستمد قوتها من وعي أفرادها، لا من استسلامهم. فالمستقبل الحقيقي يبدأ عندما يرفض الفرد أن يكون مجرد رقم في قطيع بلا وعي.
السؤال اليوم، هل ستختار أن تظل جزءاً من القطيع الذي ينساق دون تفكير، تتقاذفه الأمواج وتُنسى تضحياته؟ أم ستكون ذلك الفرد الواعي، الشجاع، الذي يشارك بعقلانية لتصويب بوصلة قادة البلاد نحو المصير المنشود، ويقفز فوق الرمال المتحركة ليصنع مستقبله ومستقبل وطنه بيده، مستلهماً من تاريخ عظيم وتطلعات عادلة؟